هو كاتب وناقد وشاعر ومفكر ومثقف ورسام ومترجم وناشط وأكاديمي وأحد رواد ومراجع الأدب في القرن العشرين، يتميز بتعدد مواهبه، وسعة اطلاعه، وتأليفه في معظم الأنواع الأدبية الحديثة. كتب أكثر من ستين كتاباً أثرى بها المكتبة العربية في مجالات القصة القصيرة، والرواية، والشعر، والمقالة، والبحث الأدبي، والمسرح والترجمة، فضلاً عن دوره في حركة التجديد العربي المعاصر.
عرفناه روائياً وناقداً أدبياً، ولم نعرفه شاعراً، ولكن إحدى أشهر أقوال جبرا التي اقتبسها الآخرون، تفسر شاعرية أي فلسطيني، بقوله: "الفلسطينيون كلهم شعراء بالفطرة، قد لا يكتبون شعراً، ولكنهم شعراء، لأنهم عرفوا شيئين اثنين هامّين؛ جمال الطبيعة، والمأساة، ومن يجمع بين هذين لا بد أن يكون شاعراً".
المسيرة الأكاديمية المثالية التي حققها جبرا، خدمت القضية الفلسطينية في أكثر من مجال، فكان من أوائل الذين أدخلوا المادة الأدبية الفلسطينية في التعليم الجامعي الذي مارسه في حياته العملية.
ولعلّ أهم ما حققه جبرا في أدبه، هو أنه جعل القضية الفلسطينية قضية ذاتية وشخصية لأبطال رواياته، كما في رواية "البحث عن وليد مسعود"، كأنه يعكس همّه الشخصي فيها، وحرص أن لا تبقى القضية حبيسة العمل السياسي أو مادة للمجاميع المصهورة بالشعارات الوطنية. فهو راد تيار "الأدب الذاتي" الفلسطيني.. ولطالما كتبتُ في مقالاتي أن فلسطين ومأساتها ليست فقط مأساة وطن أو شعب بالمعنى المجرد للكلمة، بل هي مأساة 900 ألف لاجئ، لديهم 900 ألف قصة و900 ألف معاناة و900 ألف ثورة و900 ألف حق عودة و900 ألف بيت ومفتاح وأرض يريدون العودة إليها..
الإنجاز الثاني، أنه كان أحد أهم رواد الفكر العربي، وأبرز التجديديين في الشعر العربي، وأول الفلسطينيين في الحركة الحداثية، بل سبق في شعره تجديد بدر شاكر السياب ومجموعته (البياتي والحيدري ونازك)، حيث سبقهم في الأسلوب والمضمون بعدة سنين. غير أنه لم يتفرغ لهذا المجال، واكتفى بأنه شقّ الطريق دون أن يصل إلى منحدراته ومهاويه، فلم يستمر بالتجديد والإغراق في الرمزية، ولم تشهد مجموعاته الشعرية القفزات التي شهدتها المجموعات الشعرية لدى الآخرين.
الإنجاز الثالث، هي شموليته التي تذكرنا بعلماء العصور الأولى الشموليين، واطلاعه على الآداب الغربية، حيث كان أستاذاً لمادة الأدب الإنجليزي في جامعات العراق، بعد أن أتمّ دراسته العليا في جامعات كامبريدج وإكستر في بريطانيا، ونال زمالة بحثية في جامعة هارفارد.
الإنجاز الرابع، أنه حقق كل هذه الريادة بعيداً عن مناطق الضوء (الإعلامي) وحيوية والعمل والميدان الثوري الفلسطيني، واستطاع أن يكون معادلاً لرواد الشعر والأدب الفلسطيني في عواصم دول الطوق بيروت أو دمشق أو عمان (مثلاً)، فكان يُستشار ويُعتدّ بمشورته ومساهماته، رغم بعده عن منطقة الحدث، حيث قضى حياته في بغداد.
حياته ومسيرته
ولد جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم عام 1920، وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة السريان الأورثودوكس في بيت لحم. انتقل إلى القدس عام 1932 والتحق بالمدرسة الرشيدية، وتتلمذ على يد الشاعر إبراهيم طوقان. التحق عام 1935 بالكلية العربية ودرس فيها أربع سنوات، وتتلمذ فيها على يد العالم إسحاق موسى الحسيني.
حصل على منحة دراسية من دائرة التربية والتعليم في فلسطين عام 1939، للدراسة في إنجلترا حيث انضم لجامعة إكستر ثم انتقل لجامعة كامبريدج، لدراسة الأدب الإنجليزي. حصل على بكالوريوس الآداب في الأدب الإنجليزي عام 1943. ثم حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبريدج عام 1948.
عُين جبرا بعد تخرجه مدرساً للأدب الإنجليزي في كلية الرشيدية، وعمل على تأسيس نادي الفنون في جمعية الشبان المسيحيين في القدس وكان رئيساً لها. بعد النكبة لجأ إلى بغداد عام 1948، وعمل محاضراً في الكلية التوجيهية ثم في كلية الآداب جامعة بغداد. وأسس جبرا مع زميل له من أصل بريطاني في كلية الآداب قسم الأدب الإنجليزي. في عام 1951، تعاون مع النحات والرسام العراقي الشهير جواد سليم في تأسيس جمعية بغداد للفن الحديث.
حصل مبكراً على الجنسية العراقية. وخلال إقامته في بغداد تعرف جبرا على العراقية الناشطة لميعة العسكري ابنة الزعيم العراقي جعفر باشا العسكري، والتي كانت تعمل أيضاً كمحاضرة في دار المعلمين العالية، حيث نتج عن هذا التعارف زواجهما في عام 1952، وذلك بعد إعلان إسلامه ليتمكن من الزواج منها، وقد رزقا بولدين اثنين.
وتابع تحصيله الأكاديمي، فحصل عام 1954 على زمالة بحثية في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، حيث أتمّ درجة الدكتوراه فيها.
عُين جبرا عام (1954 ـ1977) رئيساً للمطبوعات في شركة نفط العراق. أصدر جبرا أكثر من 60 عملاً أدبياً باللغة العربية والإنجليزية، وترجم 30 كتاباً من اللغة الإنجليزية إلى العربية وأهمها أعمال شكسبير: هاملت، والملك لير، وعطيل.
يتميز جبرا بالواقعية الشعرية، فهو بعيد عن الخيال لكنه مليء بالغرابة، فالتجربة المقدمة في الشعر تستند إلى تجربة عاشها، ففي إنتاجه الشعري كمٌّ كبير من النضج، يهدف للتعبير فيه عن الصوت الحاضر المعاصر والذاتي الشخصي، وهو ما يعرف اليوم (بقصيدة السيرة الذاتية).
مؤلفاته:
ـ أهم مؤلفات جبرا الروائية: البحث عن وليد مسعود، 1978، البئر الأولى، 1987، صيادون في شارع ضيق، 1960، السفينة، 1973.
ـ أما دراساته فهذا بعضها: معايشة النمرة، 1992، الحرية والطوفان دراسات نقدية، 1960، تأملات في بنيان مرمري 1989.
ـ في الترجمة والتعريب:
هاملت، 1978، المآسي الكبيرة: مسرحيات شكسبير (عطيل، الملك لير، ماكبث)، ما قبل الفلسفة، 1980.
ـ أهم مجموعاته الشعرية: تموز في المدينة. المدار المغلق. لوعة الشمس. سبع قصائد.
الجوائز والأوسمة
حاز جبرا على:
ـ جائزة "تارغا يوروبا" للثقافة (Targa Europa Award for Culture) من إيطاليا، 1983.
ـ جائزة الآداب والفنون من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، 1987.
ـ جائزة صدام للإبداع في الرواية من بغداد، 1988.
ـ وسام القدس للثقافة والفنون والآداب من منظمة التحرير الفلسطينية، 1990.
ـ وسام الاستحقاق التونسي من الدرجة الأولى، 1991.
ـ جائزة "ثورنتون وايلدر" (Thornton Wilder) للترجمة، جامعة كولومبيا الأميركية، 1991.
توفي جبرا إبراهيم جبرا عام 1994 في بغداد ودفن فيها عن عمر يناهز 75 عاماً، بعد حياة مليئة بالإنجازات الأدبية المختلفة، والتي تُرجمت للغات مختلفة أهمها الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ليترك إرثاً عظيماً في الفن والترجمة والأدب والموسيقى والشعر.
نماذج من شعره
زماننا والمدينة:
جيل المأساة نحن، وعن وعي نقبلها:
جيل عاصرت أرضه كلّ دورات الزمن
فوعى العصور كلها،
عرف الزمان مضاعَفاً
ضارباً عمقاً وعلواً،
عاشه عاشقاً متمرداً
ويعيشه كل يوم صارخاً متحدياً
...
ولكن لن نعيش إلا زمانها
زمان مدينة الطور والزيتون
مدينة المعراج والجلجلة:
هي وحدها في الأرض لنا أرض
وهي وحدها في السماء لنا سماء
50 عاما على اغتيال غسان كنفاني.. جسد ثورة فلسطين بكل أشكالها
نعمة سليمان الصباغ.. معلم الأجيال وشاعر الناصرة الأول
الشاعر ناصر جريس العيسى.. رحّالة فلسطيني من أجل التعليم