سلَّط رحيل الإمام محمود أفندي النقشبندي عن عمُرٍ جاوز التسعين عاماً؛ الضوء على الأثر البالغ الذي غرسه هذا العلَّامة العارف بالله في قلوب ملايين الناس داخل تركيا وخارجها.
في الفيديوهات المنشورة عنه فإن الرجل كثير الصمت قليل الكلام، مع أن أتباعه بالملايين، وهذا مما يثير المفارقة لبادي الرأي، لكنَّ طريق التأثير العميق ليس مهارة الكلام وفن مخاطبة الجماهير، إنَّما السرُّ هو في البركة التي يودعها الله في أصفيائه من عباده، فيصير حضورهم ملهماً باعثاً دوافع الخير في نفوس الناس. وكما قيل في الحديث المرويِّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين سئل من هم أولياء الله، فأجاب: "الَّذِينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللَّهُ". وهي كرامة ليست هينةً ولا ينالها أي أحد أن يصير حضوره مجرداً مذكِّراً الناس بالله تعالى، وأن يوضع له القبول وتلقى عليه المحبة ويبارك الله في كلماته وإن قلَّت.
وليس كلُّ الكلام سواءً، فهناك من يلقي آلاف الخطب ولا تحرِّك في قلوب الناس شيئاً إلا انفعالاً عابراً، وهناك من إذا تحدَّثَ بكلمات يسيرة أحيا الله بها الناس وهدى بها الحيارى، ذلك أن تلك الكلمات ترجمان معنىً راسخٍ في القلب يفيض على المتحدث بكليَّته، فيعلم المتلقِّي فيه الصدق والتجرد، فيسري فيه أثر الروح كما تسري الكهرباء في الأجسام الساكنة فتحركها.
وأعظم مثال في الصمت الممتلئ الملهم هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاء في صفته أنه "طويل السكوت، لا يتكلَّمُ في غيرِ حاجةٍ، وإذا تكلم يتكلم بجوامع الكلام، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه". ولا يُعلم في الأولين والآخرين من ترك أثراً عميقاً في قلوب مئات ملايين البشر مثل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
عُلِم عن الإمام محمود أفندي عِظم مجاهداته لنفسه، وهذا شرط الأثر النافع في الأرض، وشرط الفتوحات والكرامات الإلهية: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". وفي هذا المعنى قال الصوفيَّة جاهد تشاهد، فمن خالف رغبات نفسه وأهواءها قويت روحه وانبلج النور في قلبه وجعل الله له فرقاناً وجعل له ودَّاً. والإمام محمود كرَّس حياته الطويلة للدين والمجاهدة، فبدأ حفظ القرآن منذ السادسة من عمره، ولم يتوقف عن جهود الدعوة والتربية طوال حياته. وقد وصفه الأستاذ وصفي أبو زيد بأنه "كان لا ينام إلا دقائق، ولا يستريح إلا بالحقائق، ولا يتكلم إلا بالرقائق، ولا يشتغل إلا بإحياء سنن الخلائق".
ومن شدَّة حرصه على إحياء سنن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أنه سمع أنَّ أتباعه أنشأوا مدرسةً وأسموها المدرسة المحمودية، فأحزنه ذلك وقال لهم: هل جئت بدينٍ جديدٍ حتى تسمُّوا المدرسة باسمي؟ "لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف سنّةٍ، إذا رأيتموني أترك أربع سننٍ من سنن المصطفى فلا تصلُّوا خلفي".
حتى نعرف الأثر الروحي العظيم للإمام محمود أفندي، فإنه يجدر ذكر طبيعة المرحلة التي نشأ فيها ومارسَ فيها دور الدعوة والتربية، فقد كانت مرحلةً شديدة العداء لكل مظاهر الدين في تركيا، وشهدت انقلاباتٍ واضطراباتٍ، واستُهدف الشيخ نفسه
من النافع لنا في سيرة الصالحين أن نتفكَّر في أثر التنشئة الصالحة واللقمة الحلال في مباركة الله تعالى للذريَّاتِ، فقد اشتهر أبواه بالصلاح والتقوى والزهد، ويروى عن والده أنه كان يقطع كيلومتراتٍ بعيدةً كلَّ صلاة حتى لا تفوته الجماعة في المسجد الذي كان يؤمُّ فيه، ثمَّ أكرمه الله بالوفاة في الحجِّ. أما والدته فقد اشتهرت بدوام الذِّكرِ، وكانت تسوق الأبقار إلى المرعى وتحرص ألا تقترب أبقارها من أراضي الناس، فإذا أكلت بقرة من مزروعات الناس سارعت إلى طلب العفو والمسامحة منهم، وأعطتهم شيئاً من حليب الأبقار زيادةً في التحرُّزِ من أكل الحرام.
إنَّ الله تعالى يبارك في بذور الصالحين فيجعل في ذريَّتهم الحكمة والاصطفاء، وهذا معنىً ثابت في القرآن في قصة آل عمران وآل إبراهيم، وقصة الغلامين اللذين كان أبوهما صالحاً.
حتى نعرف الأثر الروحي العظيم للإمام محمود أفندي، فإنه يجدر ذكر طبيعة المرحلة التي نشأ فيها ومارسَ فيها دور الدعوة والتربية، فقد كانت مرحلةً شديدة العداء لكل مظاهر الدين في تركيا، وشهدت انقلاباتٍ واضطراباتٍ، واستُهدف الشيخ نفسه، فقد أصدر الانقلابيون العسكريون قراراً بإبعاده عن مدينة إسطنبول إلى مدينة تبعد مئات الكيلومترات خوفاً من كثرة محبيه ومن انتشار طلابه، لكنَّ الله تعالى قيَّض مفتي إسطنبول ليمنع تنفيذ ذلك القرار. كما أُودع السجن بعد أن اتُّهم ظلماً بقتل مفتي منطقة أوسكودار في إسطنبول، ثمَّ أخلي سبيله بعد أسبوعين بعد أن تبينت براءته. وفي عام 1998 قُتِل صهره اغتيالاً في جامع إسماعيل آغا الذي كان مقرَّ دعوة الشيخ، كما قتل أحد تلاميذه طعناً في المسجد نفسه عام 2006، بل تعرَّض الشيخ نفسه لمحاولات اغتيال.
في تلك المرحلة التي تحمَّل فيها الإمام محمود أفندي أمانة الدعوة وتجديد الدين أُعدم ونُفي كثير من العلماء، وتحوَّلت كثير من المساجد إلى حظائر للبهائم أو أماكن للفجور، وبذلت جهود كبيرة من السلطات لقطع علاقة الناس باللغة العربية والدين، وانفضَّ الشباب عن مظاهر الدين؛ من صلاةٍ ولحيةٍ وعمامةٍ وحجابٍ، وحُظر على المرأة المحجبة القبول في الوظائف، وصار اقتناء الكتب الدينية سبباً كافياً لدخول السجن.
لهذه المرحلة الصعبة أعدَّ الله تعالى الشيخ محمود أفندي الذي عرَف أن رسالته في الحياة هي إحياء الناس، وقد تجرَّد لهذه المهمة حين عرض عليه بعض أتباعه الاصطفاف السياسيَّ فأجاب: "رسالتنا إحياء الناس وليس قتلهم". ولم يبالِ بما يواجه هذه الطريق من محن وابتلاءات، فقد دعا له أحد أتباعه ذات مرةٍ أن يسلِّم الله رأسه من المكائد، فردَّ عليه أن المهمَّ هو أن يسلِّم الله هذا الدين، وكان يحرمه همُّ الدين الطعام والراحة والنوم.
عرَف أن رسالته في الحياة هي إحياء الناس، وقد تجرَّد لهذه المهمة حين عرض عليه بعض أتباعه الاصطفاف السياسيَّ فأجاب: "رسالتنا إحياء الناس وليس قتلهم"
من مقولات الإمام محمود أفندي التي يذكرها الأستاذ وصفي أبو زيد أنه كان يخاطب طلابه: "أنتم الغيوم المليئة بالأمطار للأراضي القاحلة العطشى"، "لو بلغ أحدنا ثمانين عاماً يجب علينا أن ندرُس ونُدرِّس، ولو هدمت بيوتنا يجب ألا نتوقف عن العلم، فمدارسنا هي طريقنا إلى الجنة، وإن كنا نبحث عن طريقة لإسعاد الناس فلن نجدها إلا في العلم ومدارسته. لا نريد أن نكون عبيداً للبطن أو المال". وكان يقول: "الدولة التي لا ينتشر فيها العلم يفشو فيها الظلم".
بارك الله تعالى في نيّة الشيخ وجهوده، فانتشرت
آلاف المدارس من طلابه ومحبيه داخل تركيا وخارجها، تهتمُّ بالتربية والتزكية ونشر العلم وإحياء سنة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
سيرة الإمام محمود أفندي ملهمةٌ، فهو رجل قد تجرَّد للدعوة والتربية وتزكية النفوس، ولم يخلط نقاء هذه الرسالة بشيء من أعراض الدنيا والمزاحمة على غنائم السياسة، وهذه طبيعة التأثير الروحي وهو نهج الرسل: "وما أسألكم عليه من أجر"، لأن تحوُّل الداعية إلى منافسٍ سياسيٍّ يضعف أثره في النفوس وينال من إخلاص القلوب وتجرُّدها فلا يتحقق ذات الأثر. وهذه الخلاصة تؤكدها تجربة الحركات الإسلامية التي لم تتفرغ لرسالة التزكية بالقدر الذي يجرِّدها من الشوائب الدنيوية ويحفظ لها طبيعتها النقية وأن تكون نوراً يبدد الظلمات ومثالاً مشرقاً يلهم الحيارى.
الحجة التقليدية لمن يرفض هذه الدعوة أن الإسلام رسالة شاملة فلا بد من السياسة مع
التربية، لكن التجرد المقصود لا يعني السلبية تجاه السياسة، فالدين يأمر بكلمة الحق والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مبادئ شاملة تطال كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية والحضارية.
بهذا الاعتبار فإن الشيخ محمود أفندي رحمه الله كان سياسياً، إذ إنَّ مجرد نشر الدعوة في زمن العداء الشديد والمحاربة للدين في تركيا، وترك أثر قاد إلى تغيير الوجه الاجتماعي كان عملاً ثورياً خطيراً، لكنَّه كسب الاحترام لأن الناس علموا منه تعففه وزهده عن المزاحمة على الغنائم، فسما بذلك على السياسيين
إنَّ رسالة الدين ذاتها تجعل أعظم الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر، وطبيعة رسالة الدين اشتباكية وليست انعزاليةً؛ لأن إقامة العدل والإصلاح في الأرض هي المقاصد الرئيسة للدين.
المقصود هو الزهد في المناصب والغنائم السياسية، أي أن يكون الداعية رساليَّاً في التفاعل مع السياسة، فيؤثر في السياسة باعتبار أنها ميدان لخدمة الناس وإقامة العدل والإصلاح والنهي عن الظلم والإفساد، وألا يتحول الداعية ذاته إلى منافسٍ سياسيٍّ معتمداً في كسب أصوات الجمهور على الدين والدعوة، وألا تنحرف رسالة الدعوة الروحية المجردة إلى حسابات المصالح السياسية الفئوية.
وبهذا الاعتبار فإن الشيخ محمود أفندي رحمه الله كان سياسياً، إذ إنَّ مجرد نشر الدعوة في زمن العداء الشديد والمحاربة للدين في تركيا، وترك أثر قاد إلى تغيير الوجه الاجتماعي كان عملاً ثورياً خطيراً، لكنَّه كسب الاحترام لأن الناس علموا منه تعففه وزهده عن المزاحمة على الغنائم، فسما بذلك على السياسيين وصاروا هم يطلبونه تقديراً لمكانته وطمعاً في ثقة أتباعه، بدل أن يكون طالباً لاهثاً وراءهم.
وقد أوجز قول منسوب إلى الإمام علي رضي الله عنه هذه الجدلية: "إذا رأيت العلماء على أبواب الملوك فقل بئس الملوك وبئس العلماء، وإذا رأيت الملوك على أبواب العلماء فقل نعم الملوك ونعم العلماء".
twitter.com/aburtema