كتاب عربي 21

"جهينة" الشركة.. و"جهينة" البلد!

1300x600
كان لا يسعدني أن يكون ذكر مسقط رأسي "جهينة" بمحافظة سوهاج؛ باباً للتذكير بشركة "جهينة للألبان" التي استطاعت أن تكون في سنواتها الأولى، ملء السمع والبصر، ليس فقط لكثافة الإعلانات التلفزيونية، ولكن لجودة المنتج!

إذ يحسب لشركة "جهينة" للألبان، أنها استمرت منذ إنشائها تقدم منتجاً عالي الجودة، على عكس كثير من الشركات التي تحرص على ذلك في بدايتها، ثم يتغير الأمر مع الوقت بكسب ثقة "الزبون"، ويشغل أصحابها تعظيم الربح ولو على حساب جودة المنتج؛ ذلك بأن صاحب هذه الشركة يعد من سلالة رجال الأعمال والمستثمرين الجادين، توشك على الانقراض، وهي ذاتها سلالة صاحب شركة العربي، العصامي الحاج محمود العربي!

ولم يكن غائباً عني أن السبب في تسمية هذه الشركة بهذا الاسم "جهينة" إنما يعود لأن صاحبها من "عرب جهينة"، بمحافظة القليوبية، و"جهينة" قبيلة جاءت إلى مصر مع الفتح الإسلامي، وتفرقت بها السبل مبكراً، فانتشرت في عدة محافظات، ما بين الوجه البحري والقبلي، بل إن من أفرادها من ذهبوا خارج حدود مصر، وعاشوا في السودان!
لم يكن من طلاب الشهرة، وليس من رجال الأعمال الذين يحرصون على الوجود في الأضواء كرجال السينما. وعندما انتمى للحزب الوطني الحاكم، كان انتماء من أجل أن يحافظ على استقلاله الاقتصادي وحماية نفسه

وفقد كان وفاء صفوان ثابت لبلده "جهينة" سبباً في أن يسمي مشروعه الذي بدأ عملاقاً باسمها، ومع ذلك لم ألتق بالرجل وجهاً لوجه، وعلى كثرة ما تلقيت من طلبات من "بلدياتنا" في سوهاج للعمل، فلا أذكر أن أحداً طلب مني العمل في شركة "جهينة للألبان"، فربما لو حدث هذا لكان هناك مبرر للتواصل معه، وهو الذي لم يكن من طلاب الشهرة، وليس من رجال الأعمال الذين يحرصون على الوجود في الأضواء كرجال السينما. وعندما انتمى للحزب الوطني الحاكم، كان انتماء من أجل أن يحافظ على استقلاله الاقتصادي وحماية نفسه، تماما كما كانت لرجل الأعمال محمود العربي تجربة لدورة واحدة للفوز بعضوية البرلمان عن الحزب الوطني، ولم يكررها، وإن كان صفوان ثابت لم يخض هذه التجربة، ولم يتمدد في الإعلام وبدا أنه ليس من الذين تبهرهم أضواء المدينة!

ورغم أن أخواله من عائلة "الهضيبي"، حيث المرشد العام الأول، وابنه المرشد العام السادس لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أنه لم يحسب على الجماعة أو اقتصادها. و"الهضيبي" من "عرب جهينة" بالقليوبية أيضاً.

والدولة المصرية، بواقع الخبرة، كانت على وعي بأن أبناء العائلات الكبيرة هم طرائق قددا، وأن العائلة الواحدة قد تضم الصالحين ومن هم دون ذلك، وتجمع بين انتماءات عدة، قد تكون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن ضباط في أمن الدولة، وأعضاء الحزب الوطني، إلى منتمين للجماعات الأكثر مواجهة مع السلطة، فلا يحسب هذا على ذاك، ولا يحمل هذا على ذاك، ولا تكون المصاهرة سبباً في موقف من النظام، فرئيس وزراء مصر الأسبق عاطف عبيد هو زوج لابنة أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، ولا يكون الانتماء القديم حائلاً دون قبول الانتقال منه، فقد كان وزير الإسكان حسب الله الكفراوي أحد الأعضاء السابقين بهذه الجماعة!

وقد بدا على أحد الوزراء في مشهد حلف اليمين الدستوري، أنه يريد أن يقول لمبارك شيئاً، وإذ انتبه لذلك، فسأله ماذا يريد أن يقول، فأجابه بأنه يريد أن يعترف بعضوية قديمة في الإخوان، حتى إذا رفع الأمن له تقريراً بذلك لا يكون مفاجأة له، لكن هذه العلاقة انتهت منذ زمن بعيد، فيرد مبارك بعدم اكتراث بأننا جميعاً مررنا بهذه التجربة!

ولهذا لم يجد مبارك حرجاً في أن يفتتح مشروعات خاصة بشركة جهينة للألبان، وفي حضور مؤسسها صفوان ثابت، مع ما عُرف من جهاز أمن الدولة من يقظة، ولا يمكن الخلاف في جدارته بالتوصل للمعلومات، لكن الرفض مرده إلى أخطاء المعالجة أو انتزاع الاعترافات التي كانت تدفع اليها غطرسة القوة!
شركة جهينة لا يمكن أن تحسب أنها شركة إخوانية، أو أنها تستثمر أموال الجماعة، وإلا كانت السلطة في عهد مبارك وضعت يدها عليها، فقد قامت الثورة ونظام مبارك يصادر ممتلكات منسوبة للإخوان؛ رُدت إليهم في عهد المجلس العسكري

والمعنى، أن شركة جهينة لا يمكن أن تحسب أنها شركة إخوانية، أو أنها تستثمر أموال الجماعة، وإلا كانت السلطة في عهد مبارك وضعت يدها عليها، فقد قامت الثورة ونظام مبارك يصادر ممتلكات منسوبة للإخوان؛ رُدت إليهم في عهد المجلس العسكري.

والجنين في بطن أمه يدرك تماماً أن ما يجري مع شركة جهينة، لا شأن له بالإخوان واستثماراتهم، لكنه نهج سلطة قررت أن تضع يدها على ممتلكات الناس الخاصة، في غياب كامل للقانون. وإذ تبرع صفوان ثابت لصندوق تحيا مصر، فلم يكن هذا مانعاً من رغبة السلطة في أن تستولي على كل أملاكه، وعلى هذه الشركة الناجحة من بابها، فكان تبرعه مثل تبرع رجل الأعمال رجب السويركي، صاحب سلسلة محلات التوحيد والنور، وبعد اعتقاله بتهم واهية، ظن الرجل لبساطة تفكيره كشخص غير متعلم، أن المطلوب منه هو التبرع، فأمر بكتابة شيك لصندوق الضرار هذا بعشرة ملايين جنيه، ويومئذ كتبت بأن المطلوب هو كل ما يملك، وليس أن يخرج الصدقات للسلطة. ولا يزال قيد السجن الى الآن، دون محاكمة جادة له، مع أنه تم الاستيلاء على محلاته بشكل كامل!

عندما استشعر صاحب "جهينة للألبان" الخطر، وأن التتار قادمون، أدخل مستثمراً أجنبياً شريكاً، ظناً منه أنه سيمثل حماية له، ولا يدرك أن هذا لم يعد له قيمة مع "الحكم العضوض"، فكان أن طلبوا منه أن يتنازل عن حصته، فلما لم يرضخ لهم، كان اعتقاله بدون مسوغات منطقية، وبدون محاكمة، وفي ظروف سجن شديدة البؤس، حتى يرضخ. ورغم أنهم صادروا الشركة إلا أنهم يريدون منه هذا التنازل، لأنها سلطة قهر الرجال!

بعد اعتقاله استداروا واعتقله ابنه الذي كان يدير الشركة بالنيابة، ووضعوه أيضاً في حبس احتياطي بدون محاكمة!

وعندما تحدثت الزوجة عن ظروف سجنهما بعد زيارة تحصلت عليها بعد نداءات ورجاءات، وعندما لم تتوقف عن الدفاع عن شركتهم، صدر قرار بحبسها أيضاً، لتخرج مكلومة وقد فرض عليها الصمت، وتموت بعد ذلك قهراً، لنكون أمام قتل غير مباشر، فكما أن هناك جريمة اسمها ضرب أفضى إلى الموت، فنحن أمام ميتة أخرى سببها القهر؛ قهر أفضى الى الموت!
عندما تحدثت الزوجة عن ظروف سجنهما بعد زيارة تحصلت عليها بعد نداءات ورجاءات، وعندما لم تتوقف عن الدفاع عن شركتهم، صدر قرار بحبسها أيضاً، لتخرج مكلومة وقد فرض عليها الصمت، وتموت بعد ذلك قهراً، لنكون أمام قتل غير مباشر

لقد زلزل موتها الرأي العام، وكانت ردة الفعل عبر منصات التواصل الاجتماعي لا تخطئ العين دلالتها، فقد وحد الغضب والحزن الشعب المصري، لأن الناس يرون أنها قضية ظلم واضحة. فهذه الأسرة لا تعمل بالسياسة، ولا توجد شبهة خوف منها على نظام الحكم، ولكنه السطو المسلح على أملاك الغير، وهذا السطو على شركة ناجحة وتقدم منتجاً جيداً، لا يبالغ في أسعاره، ولا يستغل الظرف الاقتصادي، فضلا عن أن الاتهام بعلاقة مع الإخوان هو دعاية إعلامية لم يصدقها الناس، ولم تكن سبباً حقيقياً للاعتقال ولم تقدم الأدلة عليها أمام جهات التحقيق، وإلا تمت محاكمته ونجله محاكمة علنية، ولما استحق الأمر كل هذه الفترة من الحبس الاحتياطي الانفرادي بالغ السوء!

وإزاء حالة التعاطف هذه، يبدو أن جهة بعينها رأت ألا تكون طرفا في هذا الظلم البيّن، فتم الإفراج المؤقت عن صفوان ثابت ونجله لحضور جنازة السيدة بهيرة الشاوي، ولكن حدث بعد ذلك أن أعلنت ابنة صفوان عن إلغاء العزاء المقرر بمسجد الشرطة في الشيخ زايد لأمر خارج عن إرادتهم، وكان واضحاً أن هذا الحضور لعدد من الشخصيات العامة غير المسيسة للجنازة، قد أزعج جهات أخرى، فكان الإلغاء!

لقد كان السماح بحضور صفوان ثابت لجنازة السيدة حرمه، وحضور ابنه لجنازة والدته وهو الذي أمّ المصلين، سبباً في شكر لأهل الحكم لا يستحقونه، فهم في حكم من يقتل القتيل ويمشي في جنازته، لكن الأسرة قدمت الشكر منشوراً في الصحف على هذه اللفتة الإنسانية، لكن أهل الحكم لم يستطيعوا أن يكملوا جميلهم، فكان قرار منع العزاء والذي كان متوقعاً أن يُسمح لصفوان ونجله بحضوره!
إنه الخوف من أن يستكمل الاستفتاء الشعبي في العزاء، لصالح صفوان ثابت، وضد الإجراءات التي قامت بها السلطة والتي لا يصدق الناس اتهاماتها، ثم إنه عدم التوفيق الإلهي

والعسكر هم أصحاب تجربة في ذلك، عندما مات النحاس باشا، بعد ثلاثة عشر عاماً من تغييبه قسرياً، فإذا بجنازته تتحول الى حشد قتال بدون إعلان، على النحو الذي أزعج عبد الناصر فتأوه لأن لا يزال المصريون يذكرون النحاس رغم تغيبه، ورغم تشويهه، ورغم التنكيل به، ورغم ما يعتقد أنها إنجازات قدمها للمصريين محت عهد ما قبل انقلابه بـ"إستيكة"!

إنه الخوف من أن يستكمل الاستفتاء الشعبي في العزاء، لصالح صفوان ثابت، وضد الإجراءات التي قامت بها السلطة والتي لا يصدق الناس اتهاماتها، ثم إنه عدم التوفيق الإلهي.

ومن عجب أنه وقد اعترف بفشله، فإنه يطلب من "الطيبين" أن يدعوا له، فلم يعد لديه من حيلة، ولا يريد أن يقتنع بأن هؤلاء "الطيبين" دعوا عليه بأن يسدها الله في وجهه!

إن الظلم مؤذن بخراب العمران، سنّة الله في الذين خلوا من قبل!

twitter.com/selimazouz1
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع