الكتاب: "الصدع الكبير: محنة السياسة والأيديولوجيا والسلطة في اختبارات الربيع العربي"
المؤلف: ماجد كيالي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021
يقدم الكاتب السياسي الفلسطيني ماجد كيالي في كتابه هذا تحليلا لأسباب استعصاء التغيير في العالم العربي، سيما بعد ما شهدته العديد من دوله من ثورات حاولت، كما يقول، إدخال مواطني الدول العربية في السياسة، وإظهار مجتمعاتهم على مسرح التاريخ، حيث ووجهت بقمع كبير وإحباط لجهودها وأهدافها. في هذا السياق يتحدث كيالي عن ثلاث إشكاليات يمكن من خلال النظر فيها فهم هذا الاستعصاء، تتعلق الأولى بضعف تبني مفهومي الدولة والمواطنة في العالم العربي، والثانية تتعلق بمشكلات الانقسامات الطائفية والإثنية، والثالثة تتعلق بالتنازع بين الديني والدنيوي في السياسة والثقافة والدولة.
على عكس معظم الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية في البلدان العربية، التي انشغلت على مدى عقود بمحاولة تحقيق الشعارات والمقولات الكبرى مثل: التحرير ، والوحدة، والاشتراكية، نادت ثورات الربيع العربي الشعبية بالحرية والكرامة والعدالة، وطالبت بإنهاء نظم الاستبداد والفساد، التي وجدت في استمرارها عائقا أساسيا أمام تغيير الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
غير أن هذه الثورات كشفت عن صعوبة إزاحة الأنظمة السلطوية، وصعوبة حصول التغيير، كما كشفت أيضا عن مشكلة تعاني منها هذه الثورات تتعلق بالإجابة عن معنى الحرية التي تطالب بها، وعن ضعف تمثلها لهذا المعنى في سلوكياتها السياسية.
يقول كيالي أن التجربة هذه وضعتنا في مواجهة مسارين متمايزين، الأول يجري فيه التشديد على الديمقراطية والاحتكام لإرادة الشعب باعتباره مصدرا للسلطة، والثاني يتم فيه الاشتراط على معنى الحرية وحدودها بدعوى الحفاظ على الخصوصيات والعصبيات الهوياتية (الدينية أو الإثنية) وكأن الثورات تقيد نفسها بنفسها. هناك إشكالية عميقة بشأن معنى الحرية انبثقت من مستويات عدة، بعضها سياسي نابع من الغياب التاريخي للمشاركة السياسية ولتقاليد العمل السياسي والحزبي، وعن الخضوع لأنظمة استبدادية لعقود طويلة، وبعضها اجتماعي واقتصادي ناتج عن ضعف التمدين، وبعضها مرتبط بسياسات رسخت الانقسام الهوياتي وإضعاف مسارات الاندماج المجتمعي في البلدان العربية.
مع أن الثورة الفرنسية انهزمت مع صعود نابليون كامبراطور فإن هوبزباوم يرى أن نابليون قد دمر شيئا واحدا هو ثورة اليعاقبة، أما حلم الحرية والأإخاء والمساواة فهو الحلم الذي استلهمته جميع الثورات في القرن التاسع عشر لا أسطورة نابليون.
أيضا فقد كشفت التجربة استعصاء مسألة الديمقراطية على الصعيدين السلطوي والمجتمعي. يستشهد كيالي بمقولة لجورج طرابيشي بهذا الخصوص يقول فيها "الذين فوق يسيطرون بسلطاتهم، والذين تحت يسيطرون بثقافاتهم وعاداتهم" مستدركا على ذلك بإن هذا لا يعني المساواة بين الطرفين، إذ تقع المسؤولية الأولى على عاتق الدولة، كما أن هذا لا يعني أن استعصاء الديمقراطية يصدر عن جوهر ثابت في المجتمعات العربية، إنما يصدر عن تكلس في واقعها الثقافي والسياسي تتحمل الأنظمة السلطوية المسؤولية عنه إذ تحتكر الفضاءات العامة وتسيطر عليها.
كما أن هناك عوامل أخرى يمكن من خلالها فهم هذا الاستعصاء مثل طبيعة تشكل الدول العربية التي إما قامت على خلفية عسكرية أو خلفية عشائرية قبائلية، وهي بذلك أبعد ما تكون عن دول المؤسسات والقانون. وضعف التطور الاقتصادي والثقافي في المجتمعات العربية الذي يحول دون تمكين الأغلبية من الاستحواذ على وعي سياسي لائق. كما لا يمكن إغفال دور التدخلات الخارجية إما على شكل احتلالات متعددة(أمريكي، إيراني، إسرائيلي) أو ضغوط تمارس على الأنظمة العربية، الأمر الذي أعاق الديمقراطية وأثار الشبهات بشأن أولويتها، ما عزز ولو بشكل غير مباشر نزعة التسلط وتغييب الحريات في البلدان العربية.
يلفت كيالي إلى ملاحظة أريك هوبزباوم حول مآلات الثورات إذ يقول في كتابه "عصر الثورات": كانت الثورة الفرنسية من بين الثورات المعاصرة الوحيدة التي حملت رسالة رسولية.. أما الثورة الأمريكية فقد ظلت حدثا مصيريا في نطاق التاريخ الأمريكي ولم تخلف وراءها غير آثار أساسية قليلة خارج هذا الإطار". ومع أن الثورة الفرنسية انهزمت مع صعود نابليون كامبراطور فإن هوبزباوم يرى أن نابليون قد دمر شيئا واحدا هو ثورة اليعاقبة، أما حلم الحرية والأإخاء والمساواة فهو الحلم الذي استلهمته جميع الثورات في القرن التاسع عشر لا أسطورة نابليون.
ويرى كيالي أنه لا ينبغي تحميل ثورات الربيع العربي أكثر من طاقتها فهي التجربة الأولى من نوعها في المنطقة، ومن التعسف توقع أن تغير في أعوام ما تم ترسيخه في عقود. ويقول: الثورات خيار اضطراري وتنطوي على آلام ومخاطر وكوارث، ولا شيء يقيني فيها، فيمكن أن تحقق نصرا كاملا ويمكن أن تحقق بعض أهدافها ويمكن أن تنهزم او تنحرف أو يجري التلاعب بها، لكنها تنهي حالة الاستعصاء أو الانسداد في تطور المجتمعات.
الطائفية والأقليات
في القسم الثاني من الكتاب يناقش كيالي مصادر الصراعات الطائفية والإثنية في المجتمعات العربية، مؤكدا ابتداء على أنها واحدة من أهم وأكبر المعضلات التي تعيق مسار الاندماجات المجتمعية، وأنها تستمد وجودها الحقيقي وبالدرجة الأولى من الصراعات السياسية على السلطة والهيمنة، لا من الاختلافات الدينية أو تخلف البنى الاجتماعية والاقتصادية. لكنه يلفت أيضا إلى أن نزعات التطرف والتعصب والعنف التي تسم هذه الصراعات ليست حكرا على المجتمعات العربية أو هي نتاج ثقافات وأديان بعينها، فهذه النزعات عرفتها معظم المجتمعات والبلدان والثقافات والأديان، سيما في المراحل الانتقالية كما حدث في روسيا والدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية ودول آسيوية وإفريقية.
لا يمكن المكابرة بالقول إن الثورة قد انتصرت، حيث أنها عمليا تكسرت بفعل عوامل داخلية وخارجية، كما تم تحطيم المجتمع الذي قامت بالأساس من أجله، والأهم من ذلك هو أن المعارضة ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات لم تتمكن من إقامة كيان سياسي جامع للسوريين.
في السياق ذاته ينظر كيالي إلى مسألة الأقليات الدينية والإثنية باعتبارها من اختراع النظم الاستبدادية الشمولية، فهي التي تشتغل عليها وتحولها إلى عصبيات هوياتية ووظيفية، وهي المسؤولة عن تعثر قيام دولة المؤسسات وعن تعثر الاندماجات الاجتماعية، التي تحيل "الرعايا" إلى شعب تجمعه علاقات المواطنة. يقول: إن دولة المواطنين الأحرار، الدولة الديمقراطية هي في أغلب الأحول ليس ثمة فيها أقليات وأكثريات دائمة، ولا أكثريات وأقليات منمطة بحسب العقيدة الدينية أو الإثنية أو القومية، فالأقليات والأكثريات في هكذا دولة تتأسس عموما على مصالح المواطنين الاقتصادية والاجتماعية وعلى ميولهم السياسية والثقافية والحزبية، وفي هذه الدولة لا يحق للأكثرية شطب حقوق أقلية ما أو طمس خصائصها، بل ثمة احترام لهذه الخصائص والحقوق الفردية أو الجماعية باعتبارها تشكل عامل إثراء للمجتمع والدولة.
الكارثة السورية
خصص كيالي القسم الأخير من كتابه للبحث في إشكاليات الوضع السوري سيما بعد التداعيات المعقدة و الكارثية للثورة، وما وصلت إليه الأمور من استعصاء كامل للحل. ويبدأ هذا النقاش بطرح مجموعة من التساؤلات يرى أن الإجابة عنها مهمة لتقييم الصراع بموضوعية وجرأة تليق بتضحيات السوريين طوال السنوات الماضية.
يتساءل كيالي عن معنى الانتصار والهزيمة، و يقول أنه لا يمكن المكابرة بالقول إن الثورة قد انتصرت، حيث أنها عمليا تكسرت بفعل عوامل داخلية وخارجية، كما تم تحطيم المجتمع الذي قامت بالأساس من أجله، والأهم من ذلك هو أن المعارضة ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات لم تتمكن من إقامة كيان سياسي جامع للسوريين.
وحول ما إذا كانت العسكرة والأسلمة قد أفادت ثورة السوريين يقول كيالي إن الثورة السلمية لا يمكن أن تسقط نظاما كنظام الأسد، لكن هل اسقطته الثورة المسلحة؟، أو هل كان مسموحا دوليا وإقليميا إسقاطه حقا؟.
ويوضح أن انتقاد العسكرة لا علاقة له بحق السوريين بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة العنف الوحشي للنظام، إنما يتعلق بأخذ بعض الدول زمام المبادرة بتشكيل فصائل مسلحة بمواصفات معينة، وبفرض مسار عسكري معين في الصراع مع النظام.
ثم يتساءل كيالي حول ما الفائدة التي جنتها الثورة السورية مما سمي بدول"أصدقاء الشعب السوري"، ويرى أن الثورة خسرت الكثير بسبب هؤلاء الأصدقاء الذين اقتصر دورهم على الحديث الإعلامي عن ضرورة رحيل الأسد والخطوط الحمر، ما جعلها مكشوفة أمام وحشية النظام، وفي الوقت نفسه فإن قوى المعارضة بنت صراعها مع النظام على وهم الدعم الخارجي معتقدة أن الانتصار عليه مسألة حتمية، وأن التدخل الدولي آت لا محالة، من دون إدراك أن الدول لا تعمل كجمعيات خيرية وإنما وفقا لشبكة معقدة من الأولويات والمصالح.
يوضح أن انتقاد العسكرة لا علاقة له بحق السوريين بالدفاع عن أنفسهم في مواجهة العنف الوحشي للنظام، إنما يتعلق بأخذ بعض الدول زمام المبادرة بتشكيل فصائل مسلحة بمواصفات معينة، وبفرض مسار عسكري معين في الصراع مع النظام.
من جهة أخرى فقد انتهج النظام السوري طريق القوة المتوحشة في مواجهة الثورة، معتمدا على استراتيجيات عديدة بالتعاون مع حليفتيه روسيا وإيران، حيث اشتغل على ضرب مصداقية الثورة بادعاء أنها مؤامرة تقف وراءها جماعات إرهابية مدعومة من الخارج، ويلفت كيالي إلى أن بعض مكونات المعارضة وخاصة العسكرية خدمت النظام وأسهمت في ترويج روايته عندما تبنت الخطاب الديني على حساب الخطاب الوطني، وانجرت نحو العصبية الطائفية.
في الوقت نفسه سهل النظام عملية تخليق جماعات "إسلامية" عسكرية معارضة، دون أن يعني ذلك أنه أنشأها، حيث سهل صعود داعش من العراق إلى سوريا بالتواطؤ مع العراق وإيران، بقصد تقويض الثورةونزع شرعيتها وتشويه مقاصدها. فضلا عن ذلك فقد فتح النظام البلد أمام التدخل العسكري الإيراني والروسي في حين أن دول أصدقاء سوريا لم تستطع تقديم مضاد طائرات واحد للجيش الحر، ولا فرض حظر جوي أو منطقة آمنة، ولا وقف القصف بالبراميل المتفجرة، أو رفع الحصار عن أي منطقة سورية. وتمكن النظام، بتعمده تكبيد البيئات الحاضنة للثورة الأثمان الباهظة بالقصف العشوائي والحصار والتجويع والاعتقال، من حرمان الثورة من طابعها الشعبي، واختفت المظاهر الشعبية للثورة ليحل محلها صور السوريين العابرين للحدود والبحار بعد أن تحولت الثورة إلى كارثة عليهم.
يرى كيالي أن تغليب العواطف والشعارات على حسابات الكلفة والمردود والجدوى السياسية كان عقبة أساسية أمام احتمال انتصار الثورة السورية، كما أن اللجوء إلى الخيار العسكري له كلفته البشرية الباهظة وتداعياته الخطيرة، ولذلك فهو يحتاج إلى إدارة عقلانية والتأسيس على الإمكانات الذاتية لا الوعود الخارجية، وعلى قدرة الشعب على التحمل لا على الدخول في مغامرات أو الوقوع في استدراجات غير محسوبة.
قصة "إبراهيم خليل الله أبو الأنبياء والمرسلين" في كتاب
الثورة السورية.. كيف تحول الأمل إلى ألم لا ينتهي
كيف يواجه العرب الغزو الثقافي الغربي؟ أطروحات المسيري