فكرة السد الإثيوبي تعود إلى عقود طويلة، وتحديدا إلى منتصف القرن الماضي بين عامي 1956-1964، حين قام مكتب الولايات المتحدة لاستصلاح الأراضي بإجراء مسح شامل للنيل الأزرق لتحديد أنسب الأماكن لإقامة سد ضخم على
النيل الأزرق.
بالنظر إلى تاريخ تقسيم مياه النيل منذ بداية القرن الماضي، فقد تمت عدة اتفاقيات لتقسيم حصة مياه النيل في 1902 و1906 و1929 و1959، ثم قامت الحكومة الإثيوبية بعملية مسح للموقع بين 2009 و2010. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 تم الانتهاء من تصميم السد، وتم الإعلان عن المشروع في آذار/ مارس 2011.
يقع السد في منطقة بنيشنقول على بعد تسعة أميال من الحدود مع
السودان، والغرض من إنشاء السد هو توليد الكهرباء للاستهلاك المحلي ولتصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة، بسعة 6.45 جيجا واط.
إن اتفاق إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة الإثيوبي جعل إثيوبيا متحكمة في المياه، مع إصرار إثيوبيا على كسب مزيد من الوقت، واستخدام المفاوضات لتحقيق خداع استراتيجي دون أي نية للاتفاق، ولذلك يتعجب المرء من موقف المفاوض
المصري والسوداني، حال وقوع أضرار مستقبلية بالرغم من تمسك إثيوبيا بأنه لن تحدث أي أضرار بحصة المياه لمصر والسودان.
أوهمت إثيوبيا السودان ومصر بأنها ستوافق على إنشاء آلية للتعاون الثلاثي، في مقابل التوقيع على إعلان المبادئ، وبعد الحصول على الموافقة المطلوبة على إنشاء السد، صرفت النظر عن وضع آلية للتعاون الكامل مع مصر والسودان.
أثبتت الأحداث والتطورات الأخيرة في مشروع السد الإثيوبي أن العقبة الكبرى التي تمت من مصر والسودان هي الموافقة على توقيع إعلان مبادئ السد، الذي وقعه الرؤساء الثلاثة في الخرطوم في 23 آذار/ مارس 2015. وبناء عليه تمت سيطرة إثيوبيا على المشهد والقرارات الفنية والقانونية للسد، وأعطى إثيوبيا الحق في التحكم في كمية المياه التي ستعطى لمصر والسودان. من الواضح أن إثيوبيا استغلت ضعف النظم السياسية في مصر والسودان لتنفيذ ما تريد حتى الآن.
يجب البعد كليا عن أي أفكار باستخدام القوة العسكرية لحل تلك المشكلة. نحن نعيش في وادي النيل ويوجد تقارب ومصالح مشتركة يجب البناء عليها والتوجه لحل مشاكلنا بالطرق السلمية بعيدا عن العنف، وعلى كل من يناصر السلام والحرية وحقوق الشعوب في التقدم والتنمية أن يعارض أي تدخل عسكري لحل تلك المشكلة، والتي يمكن أن يتم الاتفاق عليها لمصلحة الدول الثلاث بالطرق السلمية.
الموقف المصري:
أكد مصدر حكومي مصري أن مستشارة اﻷمن القومي فايزة أبو النجا ومختصين سابقين في المخابرات وفي وزارات الخارجية والدفاع والري؛ أجمعوا على أن التوقيع على الاتفاقية يمثل إقرارا مصريا بالموافقة على قيام إثيوبيا ببناء السد، دون أي ضمانات أو التزامات.
غير أن السيسي قرر أنه سيوقع الاتفاق، وأخبر معاونيه أنه ستكون لديه القدرة على إحداث تغيير كبير في الموقف الإثيوبي من "خلال استخدام تأثيره الشخصي على المسؤولين الإثيوبيين، بل وعلى الرأي العام الإثيوبي". الموقف المصري كان قويا، ولكن نقطة التحول جاءت بعد أن تم التوقيع على اتفاقية المبادئ.
ونقل عن مصدر حكومي آخر أن مطالبة الدول والجهات المانحة بعدم تقديم الدعم المالي والفني لإثيوبيا كانت الخط الرئيسي الذي عملت عليه الدبلوماسية المصرية، منذ بداية تحرك إثيوبيا لبناء السد في السنوات الأخيرة لحكم مبارك، وذلك اعتمادا على ما يقره القانون الدولي من أن الدول المتشاطئة على مياه الأنهار لا يمكنها أن تقوم بمشروعات مائية تؤثر على مجرى المياه وحصص الدول الأخرى دون التوافق المسبق مع دول المصب.
ومن المعروف أنه في 14 أيار/ مايو 2014، أعلن البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وإيطاليا الامتناع عن المشاركة في مشروع السد وتمويله. وبعد توقيع القاهرة في 23 آذار/ مارس 2015 على "إعلان المبادئ"، اندفعت الدول الكبرى والشركات العالمية، بل أيضاً دول إقليمية وعربية، نحو المشاركة في المشروع والاستثمار فيه، وبذلك أعطيت مشروعية دولية لحق إثيوبيا في بناء السد.
غير أن المطالبة بعدم دعم إثيوبيا في بناء السد انتفت منطقيتها بالتوقيع على اتفاقية المبادئ التي مثلت اعترافا مصريا رسميا بحق إثيوبيا في بناء السد، بغض النظر عن عدم احتواء الوثيقة على نصوص واضحة تضمن عدم المضي قدما في البناء قبل التوافق، وهو ما سبق أن حذر معاونو السيسي من حدوثه.
العقبات القانونية:
إن المبدأ العاشر من اتفاقية إعلان المبادئ ينظم "التسوية السلمية للمنازعات"، وهو ما تعول إليه إثيوبيا في رفض عملية تدويل القضية من باب الوساطة الدولية الملزمة، فالأمر يتطلب أيضا "اتفاق الدول الثلاث على ذلك". ولذلك فشلت مفاوضات واشنطن في شباط/ فبراير 2020 عندما انسحبت إثيوبيا منها.
ولذلك نجد أن اتفاق إعلان المبادئ يشكل العقبة الكبرى في استمرار التفاوض تحت بنوده التي وضعتها إثيوبيا بعناية للتحكم في مسار التفاوض، ولكسب الوقت ووضع مصر والسودان أمام أمر واقع بعد الملء الثاني للسد.
ولم يتبق أي سبب في استمرار مصر والسودان بالتمسك بإعلان المبادئ وعليهما الانسحاب الفوري منها الآن، وقد يمثل الانسحاب تحولا للدخول في مفاوضات جديدة تحت بنود أفضل.
الوقت يمضي دون التوصل لاتفاق قانوني بشأن السد الإثيوبي، ولقد فشلت الأطراف الثلاثة في المفاوضات وهي الطريقة السلمية لحل النزاعات الدولية.
توجد اتفاقيات تابعة للأمم المتحدة حول موضوع المياه ولكنها غير معتمدة من دول حوض نهر النيل، ولذلك ما أعلنه وزير الري السوداني من أن السودان يدرس خيارات بينها الذهاب لمحكمة العدل الدولية ومحكمة حقوق الإنسان للنظر في تعنت إثيوبيا في مفاوضات السد؛ سيصبح بلا جدوى.
هناك أمثلة من بعض دول منابع أنهار، وقامت بإنشاء سدود ولم تستطع دول المصب تغيير الوضع بطرق مختلفة عن التعاون المشترك أو فقدان دول المصب لكميات كبيرة من حصص المياه، مثل تركيا التي تسببت في نقصان المياه لكل من العراق وسوريا، وكذلك تشتكي الهند وفيتنام من كمية المياه التي تتناقص بعد إقامة الصين عدة سدود على أنهار تصب في البلدين. والقانون لا يمنع دول المنبع من القيام بإنشاء سدود من أجل التنمية لشعوبها بحيث لا تضر بدول المصب.
ولقد قامت إثيوبيا بمخاطبة الدول الأعضاء في مجلس الأمن، واتهمت مصر والسودان بإفشال المفاوضات الخاصة بالسد مع رفضهم تقديم أي تنازلات لحل أزمة المفاوضات. إثيوبيا تسبق دول المصب في الوصول لمجلس الأمن، وهي وسيلة لكسب الوقت حتى يتم الملء الثاني للسد. وتستمر إثيوبيا في التمسك بأن الاتحاد الأفريقي هو أفضل من يرعى الحوار بين الدول الأفريقية الثلاث.
نهر السنغال وأوجه التشابه مع نهر النيل
يمتد حوض نهر السنغال الذي ينبع من هضبة (فوته جالو) في غينيا عبر أربع دول أفريقية، وهي بالترتيب غينيا، ومالي، والسنغال، وموريتانيا، ثم يصب في نهاية رحلته في المحيط الأطلسي، قاطعا خلالها مسافة تقدر بحوالي 1790 كيلومتر، وهي تمثل طول النهر.
تم إنشاء منظمة لاستثمار طاقة النهر (منظمة استثمار نهر السنغال)، تضم موريتانيا ومالي والسنغال، ولقد انضمت غينيا مؤخرا للمنظمة. وتم تشييد عدة سدود على طول النهر للاستفادة القصوى من المياه قبل فقدانها في المحيط.
نص الإطار التأسيسي لمنظمة "استثمار نهر السنغال" على جملة من الأهداف تستفيد منها الدول الأربع بمجالي المياه والطاقة، مثل تنمية وتشجيع الزراعة المروية، وإنتاج الطاقة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجال الغذائي لسكان المناطق المحاذية للنهر، وحماية الوسط البيئي، وتحسين المداخيل الاقتصادية لسكان المنطقة.
بالنظر للتعاون المشترك بين الدول الأربع التي تستفيد من نهر السنغال، والاهتمام بمنفعة سكان تلك الدول بصورة سلمية، فيعتبر هذا مثالا جيدا، ويجب على مصر والسودان وإثيوبيا أن تتعاون في عمل مماثل.
ما هي أفضل خيارات حل مشكلة السد الإثيوبي؟
1- سحب مصر والسودان توقيعهم على إعلان المبادئ.
2- إيقاف التفاوض القائم على إعلان المبادئ كليا.
3- ضم دول حوض النيل للمفاوضات الجديدة، وهي 11 دولة (أوغندا- إثيوبيا- إريتريا- السودان- الكونجو الديمقراطية- بوروندي- تنزانيا- جنوب السودان- روندا- كينيا- مصر).
4- طلب إعادة التفاوض تحت بنود جديدة.
5- تقديم شكوي لمجلس الأمن، لمناقشة السياسات والاتفاقات الدولية للأمن المائي والاتفاقيات الدولية التي تمت حول حصص كل دولة من المياه.
وبناء على تلك النقاط التي يجب اتباعها الآن لتغيير مسار المفاوضات للاستفادة من مياه النيل بدون حدوث أي أضرار لأي من الأطراف، وللاستفادة القصوى لشعوب تلك الدول من التنمية واستخدام الطاقة وتوفير الغذاء دون تفرقة، فعلى تلك الدول البعد عن التفاوض غير البنّاء، والذي يتسم بالتحدي بينها مما يجعل من الصعب التوصل لأي حلول توافقية.
وعليه، يجب إطلاق مسار تفاوضي جاد يسفر عن اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل السد الإثيوبي، والإدارة المشتركة لتشغيله وفي التكلفة، بما يحفظ حقوق الدول الثلاث، ووضع خطة تنمية مشتركة لتوفير احتياجات شعوبها.