تشهدُ الساحة السياسية
المغربية منذ أيام جدلا ساخنا بين مجمل مكوناتها الحزبية، ذات الأغلبية الحكومية، والمحسوبة على المعارضة، وهو جدل وإن بدا قانونيا، مرتبطاً بمشروع القانون التنظيمي الخاص بمجلس النواب وأحكامه، فإنه يُخفي في واقع الحال صراعاً سياسيا حول طبيعة التوازنات المنتظر تحقيقها، والمأمول تثبيتها في الاستحقاق الانتخابي المقبل، المزمع تنظيمه في خريف هذا العام (2021).
يُذكر أن مجلس النواب المغربي صوتت فرق أغلبيته ومعارضته، باستثناء حزب العدالة والتنمية القائد للحكومة، على مشاريع القوانين الانتخابية، في جلسته العامة يوم الجمعة (6 آذار/ مارس 2021)، لتنهي بذلك النقاش الساخن الذي واكب قضية القاسم الانتخابي، وهل يجب احتسابه على أساس عدد المسجلين في القوائم الانتخابية، أم على قاعدة المصوتين فعلا في عملية الاقتراع؟
يبدو شكليا أن الجدل لا يعدو أن يكون تقنيا وقانونيا ليس إلا، وأن الأمر لم يكن ليفتح الباب مشرعا أمام كل هذا النقاش الصاخب داخل قبة البرلمان، وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وعبر أعمدة الجرائد والصحف الحزبية. بيد أن النظر بعمق في الرهانات السياسية التي يستبطنها "القاسم الانتخابي" على قاعدة قوائم المسجلين في القوائم الانتخابية، أو على أساس عدد المصوتين فعلا في
الانتخابات، يُقنع للمتابع للشأن الحزبي والسياسي المغربي أن المشكل في عمقه سياسي وليس قانونيا فحسب، لا سيما وأن المغرب مقبل على إجراء انتخابات متزامنة في تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام (2021)، وهي الانتخابات التي يُنتظر أن تفرز نخبا سياسية جديدة، بتوازنات حزبية مغايرة، أو بالعكس تُكرس ما هو موجود منذ استحقاقي 2011 و2016.
النظر بعمق في الرهانات السياسية التي يستبطنها "القاسم الانتخابي" على قاعدة قوائم المسجلين في القوائم الانتخابية، أو على أساس عدد المصوتين فعلا في الانتخابات، يُقنع للمتابع للشأن الحزبي والسياسي المغربي أن المشكل في عمقه سياسي وليس قانونيا
يسعى الرافضون لاعتماد القاسم الانتخابي على أساس المسجلين في القوائم الانتخابية لتجنب هيمنة
الأحزاب الكبرى واستحواذها على المقاعد، وبالمقابل إتاحة الفرصة للأحزاب المتوسطة والصغيرة ليكون لها نصيب من توزيع المقاعد البرلمانية. أما المدافعون عن التوزيع على أساس المشاركين فعلا في عملية التصويت، فعينهم على أكبر عدد من المقاعد، وسعيهم تاليا إلى التموقع بقوة في خريطة التوازنات التي ستفرزها انتخابات الخريف المقبل..
نحن في الواقع أمام صراع حول توزيع المقاعد النيابية، أي ترتيب مراكز القوة في المشهد البرلماني والحكومي المقبل.. لكن لا نظن أن الجدل حول القاسم الانتخابي وقاعدة توزيعه، تحكمه اعتبارات قانونية وسياسية خاصة بالمكونات الحزبية فقط، بل تتقاطع معه استراتيجيات ذات علاقة باختيارات سياسية، مُؤسسة على فكرة التوازن داخل المجال السياسي المغربي، والسبل المطلوبة لتوجيهه والتحكم في استمراره وديمومته.
وللتدليل على أهمية هذه الفكرة، يكون مجديا استحضار الاعتبارات السياسية التي تحكمت بقوة في مسار الانتخابات التشريعية منذ سبعينيات القرن الماضي، وحتى حدود بداية الألفية الجديدة (2002). فغير خاف عن أي متتبع لتطور الحياة السياسية المغربية أن الانتخابات التشريعية ظلت محكومة بهاجسين اثنين؛ يتعلق أولهما بتكريس تعددية عددية حزبية ممثلة في البرلمان، وهو ما جعل المؤسسة التشريعية على الدوام مطبوعة بالطابع الفسيفساىي، الذي يسمح لكل حزب أن يجد نصيبه من المقاعد بحسب حجمه، وفي الآن معا يحول دون أن تتحقق أغلبيات نيابية متمايزة، قادرة على تشكيل أقطاب وتكتلات برلمانية محدودة العدد، ومؤثرة في العمل النيابي والحكومي معا.
عدنا إلى سابق ممارستنا: تعددية حزبية عددية لا طعم لها، وبلقنة برلمانية وحكومية بروافد وأذرع متنافرة وغير متكاملة الأوزان
ويتعلق الهاجس الثاني بنظام الاقتراع، الذي لم تسمح بيئة تطبيقه من إنتاج مفعوله الطبيعي، كما تبين سسيولوجيا الأنظمة الانتخابية في العالم، وظل معطلا لعقود لاستقامة الحياة البرلمانية والحكومية. فقد أخذ المغرب بنظام "الاقتراح الأحادي الاسمي الأكثري، على دورة واحدة لسنوات عديدة، وهو النظام الانتخابي الأم في بريطانيا، فكانت نتائج تطبيقه في المغرب توليد تعددية حزبية عددية لا طعم لها، وبرلمانا يضم بين ردهاته أكثر من عشرين حزبا وفريقا نيابيا، بينما أنتج في بريطانيا، مهد
الديمقراطية، ثنائية حزبية متعاقبة على السلطة، وبرلمانا فعالا وناجعا، لأنه ببساطة وجد البيئة الملائمة لجعله نظاما انتخابيا منتجا لآثاره الطبيعية، كما أثبتتها النظريات الانتخابية المعاصرة.
ثم حتى حين انتقل المغرب من نظام الاقتراع الأحادي الاسمي الأكثري إلى الاقتراح النسبي على أساس التمثيل النسبي، عسى أن يستقيم التنافس الحزبي وتستقيم معه الحياة البرلمانية والحكومية، ويراكم المغرب ثقافة سياسية ديمقراطية في مجال المشاركة، لم يفلح في ذلك مرة أخرى، وعدنا إلى سابق ممارستنا: تعددية حزبية عددية لا طعم لها، وبلقنة برلمانية وحكومية بروافد وأذرع متنافرة وغير متكاملة الأوزان.
لذلك، يبدو أن كل طرف من الأطراف المتصارعة في المغرب يروم من خلال نوع "القاسم الانتخابي" الذي يُناصره؛ تحقيقَ رهانات سياسية خاصة به في الاستحقاق الانتخابي المنتظر تنظيمه في الخريف المقبل (2021).. ويبدو أن الغائب الكبير في هذا الجدل والصراع الصاخبين، والذي بإغلاق بابه بالتصويت على مشاريع القوانين الانتخابية لا تُعرف على وجه التحديد طبيعة النتائج التي سيسفر عنها لاحقا. لكن من المؤكد أن المغرب في حاجة ماسة إلى تعددية حزبية حقيقية وليس عددية فقط، وفي حاجة إلى أغلبيات برلمانية متماسكة، قادرة على تفعيل عمل المؤسسة التشريعية وإنتاج سياسات ناجعة وفعالة. كما أن هناك حاجة لنخب سياسية جديدة قادرة على إعادة الصدقية لمفهومية التمثيلية والوساطة بوصفهما متطلبين أساسيين لإعادة بناء الثقة مع المواطنين وتطلعاتهم العامة.