ما كتبته في هذه المحاولة يكاد ينفي السياسة إذا لم تخضع لتحديدها القرآني المتمثل في الوصل الدائم بين عالمين عالم الشهادة وعالم الغيب أي بين الاستعمار في الأرض (رمزا للعالم كله طبيعيه وتاريخيه) والاستخلاف فيها (رمزا للوجود كله ظاهره وباطنه).
وبهذا المعنى فإن ما تعاني منه الأمة حاليا هو أن نخبها تنقسم إلى نوعين من الفصل بين الوجهين أولهما يتصور الاستخلاف ممكنا من دون الاستعمار والثاني يتصور الاستعمار ممكنا من دون الاستخلاف. فيكون الإشكال كله في:
1 ـ انعدام الوعي باستحالة تحقيق مهمة الإنسان الغائية موضوعا للسياسة التربوية أو قيم التميكن وقيم التزمين المستمدة من التاريخ من دون صلة عالم الشهادة بعالم الغيب ودور الإسلام في جعل تحقيقهما كونيين وهو معنى كونية الإسلام من حيث هو قيم سياسة عالم الشهادة لتحرير الإنسان من عبادة التاريخ (ثورة موسى وسلطان التراث).
2 ـ انعدام الوعي بعبث تحقيق مهمة الإنسان الأداتية موضوعا للسياسة الاقتصادية أو التمكين والتزمين الدنيويين المستمدة من الطبيعة ودور الإسلام في جعل تحقيقهما يقتضي التلازم بينهما تلازما كونيا في كل جماعة ثم بين كل الجماعات التي تتألف منها الإنسانية. وذلك هو معنى كونية الرسالة الإسلامية من حيث هي سياسة عالم الشهادة أو الاستعمار في الأرض لتحرير الإنسان من عبادة الطبيعة (ثورة نوح وسلطان الثروة).
3 ـ وطبعا فثورة التحرر من الطبيعة التي ترمز لها رسالة نوح متقدمة على الثورة التي ترمز إليها رسالة موسى. ذلك أن تحقيق الانتقال من المكان إلى التمكين في حصة من المكان تنتج الثروة (الاقتصاد) والانتقال من الزمان إلى التزمين في حصة من الزمان تنتج التراث (الثقافة) وهي التي تحوج الإنسانية إلى ثورة التحرر من التاريخ الذي ترمز إليه ثورة موسى المتأخرة على الثورة التي يرمز إليها نوح.
4 ـ وإذن فبين نوح وموسى لا بد أن يحصل مشكل الثروة ببعديه ومشكل التراث ببعديه: والأول يتعلق بالمائدة خاصة أي بسلطان الثروة وشروط التبادل العادل بين البشر (الثروة وأدوات التعيير لتحقيق التعاوض العادل: هود وشعيب) والثاني يتعلق بسلطان التراث وشروط التواصل الصادق بين البشر (التراث وأدوات التعيير لتقحقيق التآنس الصادق: صالح ولوط).
5 ـ لكن ذلك كله مستحيل إذا لم يوجد عامل التوحيد المحقق للمساواة بين البشر ومصدر القيم وذلك هو معنى وجود المستخلِف (الله) والمستخلَف (الإنسان) ثورة ابراهيم. والمخاطب بهذه الرسالة هو محمد. خاتم الرسل وتلك علة الكونية لأنها لجميع البشر.
استراتيجية توحيد الإنسانية
ولما كانت هذه المهام قد نكصت بسبب دين العجل الذي حرف رسالة موسى فإن المحمدية صارت في آن تحقيقا للثورتين ـ للتحرر من سلطان الطبعية وللتحرر من سلطان التاريخ ـ بتحريرهما من الخسر أي دين العجل أو الاخلاد إلى الأرض بعبادة.
1 ـ معدن العجل أو ربا الأموال.
2 ـ خوار العجل أو ربا الأقوال.
ونوعا الربا يحولان التحرر من عبادة الطبيعة إلى تهديمها بمعدن العجل والتحرر من عبادة التاريخ إلى تهديمه بخوار العجل: وتلك هي العولمة. وبهذا المعنى فإن السياسة التي أتكلم عليها والتي هي ما به بدأ الإسلام تحققه التاريخي في موجته الأولى التي مكنت للأمة في المكان وزمنت لها في الزمان هي أيضا ما به سيتم الاستئناف لأخراج الإنسانية من عولمة دين العجل في الموجة الثانية التي بدأت الآن.
بقي علينا أن نحدد بكامل الدقة عمل الهرم المحقق للقدرة في مستوى كيان الإنسان فردا وجماعة وعمل العرم المتحقق في مستوى التعمير والاستخلاف في كيان عالمه الطبيعي والتاريخي فيحصل منهما التراث والثقافة والثروة والاقتصاد.
وهما غاية التمكين لجعل حصة الجماعة من المكان مجالها الحيوي المادي وحصة الجماعة من الزمان محالها الحيوي الروحي وذلك تعين وجود الجماعة من حيث هي مبدعة لذاتها في كيان الإنسان (في الانفس) وفي كيان عالمه (في الآفاق).
وتحقق ذلك هو الذي يبين للإنسان أن القرآن حق من حيث هو استراتيجية توحيد الإنسانية بمعيار الاخوة البشرية (النساء 1) والمساواة بين البشر (الحجرات 13) فتكون السياسة في آن سياسة للجماعات المعينة ولجماعة الجماعات التي تشمل الإنسانية كلها.
نخصص هذا الفصل الرابع لفحص الهرمين ومنطق عمل عناصر القاعدة التي تنتج القمة. أما الفصل الخامس والأخير فسيكون خاصا بكيفية عملهما معا لعلاج قضية العلاقة بين التجهيز في كيان الإنسان فردا وجماعة من جهة وما يعمل فيه التجهيز لينقله من الطبيعي إلى التاريخي في العالم الشهادة وليصله بما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ وصلا لعالم الشهادة بعالم الغيب.
القرآن يفرض على دولته حماية كل الأديان بل ويقدم حماية الصوامع والبيع على المساجد ويعتبر الأقليات الدينية أهل ذمة بمعنى أن الدولة الإسلامية مطالبة بحمايتهم وحماية حقهم الثقافي ممارسة لعباداتهم بل وحتى تطبيقا لشرائعهم بينهم ولا تفرض عليه الدولة قانونها النابع من شريعتها.
فالانشداد الواصل بين العالمين هو مجال الاستخلاف ـ من حيث هو فكرة متعالية لا يخلو منها روح الإنسان ـ تثبت أنه ـ بصرف النظر عن فكرة الدين إذ يمكن أن يكون مثيولوجيا أو يتوبيا أو ما شئت من التعريفات ـ لا يمكن أن يقبل بالانحباس في عالم الشهادة-بشكليه في كيانه أي بدنه وفي في كيانه محيطه أي العالم.
فهو يخرج منهما بوضع عالم أرحب لا متناهي ـ وضعا لا يمكن ألا يكون إلا تخيلا حتى لو كان عميق الإيمان لأنه من ا لغيب المحجوب عند المؤمنين عالم لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر ـ فهو عالم أرحب بإطلاق لا متناهي بإطلاق.
فيتجاوز به المكانين (بدنه والعالم الطبيعي) والزمانين (روحه والعالم التاريخي) والثروة (ما يستمده من المكانين) والتراث (ما يستمده من الزمانين) يتجاوزهما إلى مرجعية فعلية هي الآخرة التي لا نهاية لها من حيث السعة المكانية والمدة الزمانية والثروة التي لا نضوب لها والتراث الذي لا ينفد (وذلك هو معنى الجنة ونقيضها أي جهنم التي تصبح العذاب الأبدي كما يتعينفي الإخلاد إلى الى الأرض).
1 ـ التذكير بهرم التجهيز مربع القاعدة وكيف يعمل مباشرة وبصورة غير مباشرة وهو أصل أفعال الإنسان الذين يحققون مهمة الجماعة عامة ومهمة القيمين على شأنها السياسي من حيث هي جماعة حرة تحكم نفسها بمن تنتخبه لينوبها في ما لا يتم إلا بفرض الكفاية من فروض العين التي هي مهام الجماعة باعتبار تقسيم العمل في الجماعة: فكل فرد مسؤول عن فرض كفاية في كل فروض العين لأن كل اختصاص يؤديه الفرد لذاته ولغيره ممن يحتاج إليه أي لبقية الجماعة.
2 ـ التذكير بهرم المجال مسدس القاعدة وكيف يعمل مباشرة وبصورة غير مباشرة وهو المحدد للبنية المجردة لمهام الجماعة ولمؤسسات نظامها التي يملؤها التجهيز مربع القاعدة لأداء الوظائف فرض عين والقوامة فرض كفاية.
3 ـ تفاعلهما يكون من منظور التجهيز برد المسدس إلى المربع وهو عمل الجماعة من حيث هي جماعة في كل فروض العين ومن حيث هي قيمة على ذاتها بمن تعينه ليقوم بفرض الكفاية نيابة عنها وتحت مراقبتها الدائمة تعيينا وتصرفا وتغييرا منتظما أو عزلا عند الاخلال بأحد المعيارين الأمانة والعدل (النساء 58)
4 ـ تفاعلهما يكون من منظور المجال برد المربع إلى المسدس ورد المسدس إلى المربع:
بفضل التمكين: الجغرافيا والثروة. والحصة من المكان: البدن والفضاء العام. وبفضل التزمين: التاريخ والتراث. والحصة من الزمان: الروح والتاريخ العام.
5 ـ علة الازدواج هي أنه لا علاقة بين الإنسان والإنسان من دون توسط ما تنتجه الطبيعة والتاريخ رهانا لفعلهما الذي يسد حاجتهما العضوية والروحية، ولا علاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والتاريخ من دون تسوط الإنسان منه حيث استعماله لتجهيزيه من أجل استمداد حاجته من بالتعاون عليها ومن ثم بالتبادل والتواصل بين البشر.
ولا حاجة للعودة إلى ما بينته من رد التربيع إلى التسديس ورد التسديس إلى التربيع في قاعدة المهرمين ولا حتى للكلام على علاقة الجغرافيا بالتاريخ لأنها هي عين علاقة المكان بالزمان بعد أن يصبحا تمكنا وتزمنا ينتجان عن تقاسم المعمورة بين الجماعات البشرية سواء في داخل نفس الجماعة أو بين الجماعات.
ثورة الإسلام
وبهذا المعنى فكل سياسة عالمية بالطبع وتلك هي ثورة الإسلام التي تجمع بين ثورة نوح وثورة موسى ولكن دون حصرهما في جماعة معينة كالحال مع نوح وموسى، إذ لا فرق بين الداخل والخارج من حيث الرهانات التي هي تقاسمهما وتقاسم ثمرتهما لأن كل جماعة ذات التفاتين داخلي وخارجي بسبب تقاسم الجغرافيا مكانا والتاريخ زمانا:
1 ـ هرم التجهيز في كيان الإنسان وقدرته (الإرادة والرؤية والعلم والفن قاعدة للقدرة الإنسان في الإبداعين الاقتصادي المادي والثقافي الروحي لأنتاج الثروة المادية والرمزية والتراث العلمي والفني).
2 ـ هرم مجال الفعل في كيان العالم والمسخر من قدرته لسد حاجات الإنسان العضوية بكيانه الشاهد والروحية بكيانه الغيبي أي بما ورائه (المكان والحصة منه أصلا للثروة والزمان والحصة منه أصلا للتراث بمفعول هرم التجهيز في هرم المجال).
ولا يمكن إذن للهرم الثاني أن يحصل إلا بفضل الهرم الأول ولكن بتوسط دور الفرد في ودور الجماعة في الفرد وإذن بتوسط بعدي السياسة أي الرعاية الحماية لكيان الإنسان ولشروط بقائها في الاحياز التي هي مجال فعله في العالم الطبيعي والتاريخي وانفعاله بهما سياسيا بنظام هو سياسة التربية والاقتصاد للرعاية والحماية.
وتلك هي وظائف الجماعة المنظمة في دولة سواء كان بالمعنى التام أو بالمعنى الناقص أي من الأسرة بداية إلى القبيلة وهي الأسرة الكبرى إلى مجموعة القبائل إلى الأمة إلى الإنسانية. فتكون السياسة هي علاج الجماعة الحرة لمشكلين شاركين للرعاية والحماية وتفاعلهما في الاتجاهين والاصل الموحد للعناصر الاربعة في كل سياسة:
1 ـ مشكل التمكين في الجماعة وبين الجماعات: تحديد المنازل بالثروة ومن ثم فتوزيع الفضاء المكاني العام رهان أساسي وهو مصدر كل المشاكل المتعلقة بالمنازل الطبقية المادية.
2 ـ مشكل التزمين في الجماعة وبين الجماعات: تحديد المنازل بالتراث ومن ثم فتوزيع الفضاء الزماني العام رهان أساسي وهو مصدر كل المشاكل المتلعقة بالمنازل الطبقية الروحية.
3 ـ والعلاقة بين المكان والتمكن تنعكس فيصبح المكان يعير بثروة شاغليه ويتحول إلى ثروة. وبذلك فالحصص من المكان تصبح متميزة بالكم وبالكيف بحسب الطبقات الاقتصادية. ويكفي مقارنة الحصص في المناطق التي يسكنها فيها الأثرياء بالحصص في المناطق التي يسكنها الفقراء.
4 ـ والعلاقة بين الزمان والتزمهن تنعكس فيصبح الزمان يعير بتراث شاغليه ويتحول إلى تراث. وبذلك فالحصص في الزمان تصبح متميزة بالكم وبالكيف بحسب الطبقات الثقافية. ويكفي مقارنة الحصص في الحقب التي معتبرو الزمان فيها من المبدعين في التراث بالحصص في في الحقب التي معتبرو الزمان فيها يعيشون بتراثهم.
5 ـ وهذا هو مصدر التراتب في الجماعة وبين الجماعات في المكان ومعمريه وفي الزمان وممديه. ولا يكون الأمر معبرا عن تمكين وتزمين فعليين أي عن تحقيق للحيز المكاني وللحيز الزماني من أجل الرعاية والحماية المحققين لسيادة الجماعة على ذاتها وعلى مجاليها الحيويين باستعمال تجهيز الإنسان في الاستعمار وفي الاستخلاف في الارض..
وفي تلك الحالة يكون التراتب معبرا عن أدوار فعلية في علاقة الإنسان بالطبيعة وفي علاقته بالتاريخ. لكنه يمكن ألا يكون كذلك فيكون بالعكس غير معبر عنهما بل هو من جنس ثروة وتراث الورثة الذين لا فضل لهم في انتاج الثروة وفي انتاج التراث بل هم يستغلون ما ورثوه دون قدرة على ابداعه أو تجاوزه.
حال العرب والمسلمين
وهذه هي حال العرب خاصة والمسلمين عامة. وحينها لا يكون له السيادة لا على ذواتهم ولا على مجالهم الحيوي الطبيعي ومجالهم الحيوي التاريخي بل هم يصبحون تابعين:
1 ـ لأنهم لم يحققوا الثورة المحررة من سلطان الطبيعة بل يعيشون على ما تنتجه لعدم قدرتهم على تحقيق ثورة نوح.
2 ـ لأنهم لم يحققوا الثورة المحررة من سلطان التاريخ بل يعيشون على انتجه الماضي ببعديه حدثا وحديثا لعدم قدرتهم على تحقيق ثورة موسى.
3 ـ فيكونوا تجار ثروة طبيعية لا سلطان لهم عليها بمعيين تقينا (لا يستطيعون تحويلها) وسياسيا (ليسوا حماتها) وتلك تبعية مضاعفة علمية تقنية واقتصادية.
4 ـ ويكونوا تجار تراث تاريخي لا سلطان لهم عليه بمعنيين تقنيا (لا يستطيعون اكتشافه مثلا التراث الفرعوني اكتشفه علماء الغرب) وسياسيا (ليسوا حماته) وتلك تبعية مضاعفة تقنية واقتصادية.
5 ـ والتبعيتين إذا اجتمعتا كانتا دالتين على التبعية السياسية التي هي معنى عدم السيادة والدولة فتكون الجماعة في محميات تابعة بسياسة الانفعال بدل الفعل. وتلك هي حال المسلمين عامة والعرب خاصة. والعلة طبعا هي الفشل في الثورة الأولى -أي النظر والعقد وتطبيقاته- والفشل في الثورة ا لثانية -أي العمل والشرع وتطبيقاته.
ـ وعلة الفشل الأول فساد التربية. وفساد التربية يؤدي إلى فساد الرعاية أي تكوين الأجيال وتموينها بسبب التخلف في البحث العلمي وتطبيقاته وهو العلة الأولى لفساد معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون.
القرآن وضع قانون دولي للحرب لحصرها في ما يجري بين الجيوش ويستثني منها الشعوب والطبيعة ولهذه العلة كانت الفتوحات تجري بين الجيوس ولم يترتب عليها لا افناء الشعوب ولا تعطيل التعدد الثقافي واللغوي إلا ما كان من تفاعل اختياري وحر..
ـ وعلة الفشل الثاني فساد الحكم. وفساد الحكم يؤدي إلى فساد الحماية إي تكوين القضاء والأمن داخليا والدبلوماسية والدفاع خاريجا بسبب التخلف في الاستعلام وتطبيقاته وهو العلة الثانية لفساد معاني الإنسانية.
ـ وفساد التربية يقتل ما في الإنسان من فاعلية روحية في حقيقته بوصفه "رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له" معتدا بكيانه الروحي وهو ما يحول دونه والإرادة الحرة والمعرفة الصادقة والرؤية الفسيحة والذوق الجميل فيصبح عاجزا وفاقدا لكل قدرة على الإبداعين الاقتصادي والثقافي بسبب عنف التربية التي تنتج عن فسادها.
ـ وفساد الحكم يقتل ما في الإنسان من فاعلية مادية في حقيقته بوصفه"رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له" بسبب عنف الحكم معتدا بكيانه المادي وهو ما يحول دونه وشرط الفعل الإرادي والصدق المعرفي والرؤية ذات الأفق والذوق المحفز للنشاط فيصبح عالة وتابعا لا حول له ولا قوة.
وهذا هو الوصف الخلدوني لانحطاط الأمم وأفول الحضارات عضويا وروحيا في كيان الإنسان الذي يفسد جهازاه أي النظر والعقد في المعرفة شرط الاستعمار في الأرض والعمل والشرع في القيمة شرط الاستخلاف فيها.
ولا يمكن تصور جماعة سوية تكتفي بالثاني لامتناع الرعاية والحماية بسبب فقدان التمكين في تلك الحالة ولا بالأول لامتناع غايات الرعاية وغايات الحماية بسبب فقدان التزمين.
وإذا زال طموح التمكين الأداتي وطموح التزمين الغائي فإن الحضارة ترتد إلى الترف. وهو على نوعين:
ترف الأثرياء وهم المافيات التي جمعت الثروة والتراث لجمعها المكان والزمان أي حيازة السهم الأغلب منهما.
ترف الفقراء وهم عبيدهم الذين فقدوا سهمهم في الثروة والتراث لفقدانهم نصيبهم من المكان والزمان.
والفرق بين النوعين هو أن النوع الثاني لا يحوز أصحابة إلا الحد النباتي من شروط الحياة فيصبحون عبيدا ماديا وروحيا. ولا يمكن حينئذ القيام بثورة نوح فضلا عن ثورة موسى لأن ما بينهما (ثورة شروط الحياة العضوية أي الماء والجنس وشروط حياتهم الروحية أي الثروة والتراث بيد سادتهم.
وذلك هو ما شيب الرسول الخاتم عندما فهم دوره في هذا الإصلاح الكوني الذي حاولت وصفه كما بينته سورة هود واخواتها. وكنت دائما اعجب ممن يتكلمون على الغرب بكونه يطبق الإسلام وإن لم يكن مسلما ونحن نطبق عكسه وإن كنا مسلمين.
وهذه القولة دليل على عدم فهم الإسلام. فالغرب لا يطبق الإسلام لأنه يقصر قيمه على جماعته ونحن لسنا مسملين لأننا نتصور الإسلام هو العبادات والشعائر من دون ثمراتها. وثمراتها هي التمكين والتزمين شرطي الرعاية والحماية للجميع في الداخل والخارح: ولذلك علامتان فعليتان فضلا عن دستور الرسول التعددي دينيا وعن صحابته المتعددة عرقيا:
1 ـ القرآن يفرض على دولته حماية كل الأديان بل ويقدم حماية الصوامع والبيع على المساجد ويعتبر الأقليات الدينية أهل ذمة بمعنى أن الدولة الإسلامية مطالبة بحمايتهم وحماية حقهم الثقافي ممارسة لعباداتهم بل وحتى تطبيقا لشرائعهم بينهم ولا تفرض عليه الدولة قانونها النابع من شريعتها.
2 ـ القرآن وضع قانون دولي للحرب لحصرها في ما يجري بين الجيوش ويستثني منها الشعوب والطبيعة ولهذه العلة كانت الفتوحات تجري بين الجيوس ولم يترتب عليها لا افناء الشعوب ولا تعطيل التعدد الثقافي واللغوي إلا ما كان من تفاعل اختياري وحر..
إقرأ أيضا: لماذا تراجع العرب والمسلمون؟ أبو يعرب المرزوقي يجيب
إقرأ أيضا: استراتيجية توحيد الإنسانية بمبدأي الأخوة والمساواة في القرآن
إقرأ أيضا: الاستخلاف في الأرض وتعميرها.. قراءة في المفهوم والدلالات
الإسلاميون والغرب.. من أجل حوار سياسي جدي ومثمر
من هم رواد التيار الحداثي العلماني وأطروحاتهم في تونس؟
استراتيجية توحيد الإنسانية بمبدأي الأخوة والمساواة في القرآن