منذ أن تولى "دونالد ترامب" الرئاسة في الولايات المتحدة، وهو لا يدخر وسعاً لتأكيد صهيونيته المتجذرة في أعماقه. ظل يسعى جاهداً طوال السنوات الأربع الماضية ليُمكن الكيان الصهيوني في الأرض، ويرسخ أقدامه بوتد من حديد، وتكون له اليد العليا في المنطقة.
لم يُقَدم رئيس أمريكي سابق ما قدمه "ترامب" لدولة الاحتلال؛ ليس بدءاً من الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وضم هضبة الجولان المحتلة إلى حدوده، والاعتراف بالمغتصبات (المستوطنات) الصهيونية على الأراضي الفلسطينية، والموافقة ضمنياً على خطة "نتنياهو" الشيطانية بضم أجزاء من أراضي الضفة الغربية للكيان الصهيوني، وحجب الأموال عن منظمة "الأنروا"، بهدف الضغط عليها لاسقاط حق العودة، وغلق مكتب فلسطين في واشنطن، تمهيداً لصفقة القرن التي طرحها لتصفية القضية الفلسطينية.
ولم تكن معاهدة "أبراهام"، التي طبعت بموجبها دول الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وأقامت علاقات دبلوماسية مع العدو الصهيوني، هي آخر تلك الهدايا التي قدمها "ترامب" لدولة الاحتلال..
فلقد أبى "ترامب" أن يغادر البيت الأبيض إلا بعد أن يودع دولة الاحتلال بتقديم هدية ثمينة لها، تمنتها كثيراً وطال انتظارها طويلاً؛ فقرر إدماج الجيش الصهيوني في المنطقة العربية، والشرق الأوسط كله؛ بضمه للقيادة المركزية الأمريكية "سنتكوم"، التي تتخذ من قاعدة العديد في قطر مقرا لها..
علمتم الآن لماذا تمت المصالحة الخليجية بالأمر الترامبي المباشر؟!
في حقيقة الأمر، كانت المنظمات اليهودية الأمريكية تلح كثيراً على الولايات المتحدة لدمج الكيان الصهيوني في القيادة المركزية الوسطي، من أجل ربط الأمن القومي الصهيوني بالأمن القومي الأمريكي، لكن الإدارات الأمريكية السابقة كانت ترفض هذا الطلب دوماً، نظراً لحالة العداء بين الدول العربية ودولة الاحتلال آنذاك، ولكن هذا لا يمنع من حضورها القوي في صلب القرار الأمريكي، وفي خضم معارك الولايات المتحدة التي تخوضها نيابة عنها، فهي مشروعها الاستعماري في المنطقة، وأمنها القومي بالفعل من أمن أمريكا، دون الحاجة لإصدار قرار كهذا، فحروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة في غزو العراق، كانت دفاعاً عن بقاء دولة الاحتلال، الأقوى في المنطقة، وضماناً لتفوقها الاستراتيجي والعسكري المطلق على كل دول الشرق الأوسط..
ويحضرني هنا ما قاله الجنرال "هريرت نورمان شوارزكوف"، قائد المنطقة الوسطي للقوات الأمريكية (1988- 1991)، بعد حرب الخليج الثانية، فقد أبلغ قادة تل أبيب مفتخراً: "دمرنا الجيش العراقي نيابة عنكم في عاصفة الصحراء"!
لقد نجح أخيراً المعهد "اليهودي للأمن الوطني الأمريكي"، الذي يضم في عضويته قيادات عسكرية سابقة أمريكية وصهيونية، أن يضغط على "ترامب" لإصدار هذا القرار الخطير، والذي من شأنه تحصين قوة الكيان الصهيوني ومكانته، وتعزيز مجالات التعاون الإقليمي بينه وبين دول المنطقة، بما في ذلك إشراك جيش دولة الاحتلال في تدريبات عسكرية تنظمها القيادة المركزية الأمريكية في إحدى الدول العربية، وبذلك تستطيع دولة الاحتلال الدخول رسمياً وعملياً تحت مظلة القيادة الوسطي، في أي عملية عسكرية بمشاركة عربية!!
كان الكيان الصهيوني قبل صدور هذا القرار، يُعد في نطاق القيادة الأمريكية للمنطقة الأوروبية وليس الشرق أوسطية، لتجنب أي حساسيات من التنسيق مع الكيان بالمثل في أوجه التعاون العسكرى العربي الأمريكي. فباستثناء مصر والأردن لم تكن هناك دول عربية تربطها معاهدات سلام مع العدو الصهيوني، لكن الآن الوضع قد تغير بدخول دول أخرى في مستنقع التطبيع، فإن إدارة ترامب قبل أن تترك، وضعت باقي الدول العربية أمام الأمر الواقع في التنسيق مع الكيان الصهيوني، وخاصة السعودية والكويت اللتان تتعاملان وتنسقان عسكرياً مع القوات الأمريكية لديهما والخاضعة للقيادة الوسطى تحت إمرة الجنرال "فرانك ماكينزي"، ناهيك عن قطر التي تستضيف أكبر قاعدة أمريكية. إذ إن نقل دولة الاحتلال لتعمل تحت مظلة القيادة العسكرية الوسطى، سيساهم في الفرض على الدول العربية أن تقبل شروطاً تطبيعية، بعد أن أصبحت دولة الاحتلال رسمياً وعلناً، وليس من وراء ستار كما كان قبل صدور قرار ترامب، حامية لتلك الدول والأنظمة!!
وحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن الدلالة الأبرز لقرار "ترامب" الاستراتيجي هي المشاركة في تشكيل أجندة الأمن القومي التي سيرثها "جو بايدن"، والتي أجزم بأنه لن يغيرها ولن يلغي هذا القرار، شأنه شأن كل القرارات الخاصة بالكيان الصهيوني وفلسطين، إنها سياسة أمريكية ثابتة..
القيادة المركزية الأمريكية، أو القيادة الأمريكية الوسطى، هي أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، أنشئت عام 1983، لتعزيز القدرات الأمريكية في مجابهة الغزو السوفييتي لأفغانستان، وفي ظل تصاعد وتيرة الحرب العراقية الإيرانية آنذاك، وكان الغرض منها هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة على الشرق الأوسط، لتصبح القطب الأوحد في العالم. وبعد أن حققت هذا الهدف الثمين، أصبح العدو المفترض هو الإسلام، فتحت مسمى الحرب ضد "الإرهاب"، أشعلت الحرب العالمية الثالثة، وأصبحت القيادة الوسطى المسؤولة عن إدارة تلك الحرب العالمية، بما في ذلك العمليات في العراق، وسوريا، وأفغانستان، والخليج، ولها أهداف استراتيجية محددة وضعها البنتاغون، إذ أنها تشرف على التنسيق مع الدول التي "تستضيف" (وهو لفظ مهذب) القوات الأمريكية المتواجدة في قواعد عسكرية، خاصة على أرض الخليج العربي!
هذه القوات تقوم برسم سياسات عسكرية، تشمل كل الجيوش العربية في الشرق الأوسط، وكذلك أفغانستان وباكستان، بالإضافة إلى مهمة الأمن تجاه إيران، ووضع دولة الاحتلال ضمن هذه القوات يجعلها العنصر الفاعل في عملياتها العسكرية بالشرق الأوسط..
وهو ما يعني بالضرورة أيضا التنسيق والتخطيط والتعاون العسكري، بين جيش دولة الاحتلال وبين الجيوش العربية، فقد أصبحا ذراعين في جسد واحد، في أي حرب مقبلة في المنطقة، مع إيران مثلاً، أو أن تفتعل دولة الاحتلال أزمة مع غزة وتشن حرباً عليها، كما فعلت مراراً في السنوات الخالية، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، فماذا سيكون موقف الدول العربية المتحالفة مع الكيان الصهيوني إزاء تلك الحروب؟! وستقف مع مَن؟!
يبدو بالطبع سؤالاً ساذجاً أو محرجاً كان من الأحرى تجنبه، فإجابته منصوص عليها في هذا القرار الترامبي!!
هذا التحالف العسكرى الجديد، أو ما أطلقت عليه في مقالات سابقة "الناتو الصهيوني العربي" بدعم أمريكي، كنت أتوقع حدوثه بعد اتفاقات "أبراهام"، مع التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي، لأن هذا التطبيع سيظل ناقصاً ما لم يتوج أو يزين بالتطبيع العسكري أيضا لتحقيق الهدف المراد منه، فهذا هو بيت القصيد كما يقولون..
هذه الخطوة الأمريكية بمثابة تطويق جديد للقضايا العربية، ضمن المشروع الأوسع لما يعرف بـ"صفقة القرن". فبموجب القرار، فإنه يمكن لقائد القيادة المركزية الجنرال "فرانك ماكنزي"، الذهاب إلى أي مكان في المنطقة دون حسيب ولا رقيب، وجمع المعلومات الاستخبارية حول الدول العربية، وبالطبع ستتم مشاركة الكيان الصهيوني في هذه العمليات الاستخبارية، وهو ما يسهم في مزيد من تعرية الأمن القومي العربي بصورة فاضحة في المرحلة القادمة. وربما تختفي عبارة الأمن القومي العربي نهائياً من القاموس السياسي، ليصبح الأمن القومي العربي المتصهين!
إن ضم دولة الاحتلال إلى القيادة المركزية الوسطى في الجيش الأمريكي هو أحد ثمار اتفاقات التطبيع، وهو دليل إضافي واضح للعيان على أن هذه الاتفاقات صممت خصيصاً لخدمة المشروع الصهيوني في المنطقة..
ولقد أعلنها البنتاغون صراحة في بيانه، حيث قال: "إن خفض التوتر بين إسرائيل وجيرانها بعد توقيع اتفاقيات "أبراهام" أتاح فرصة مهمة للولايات المتحدة لجمع الشركاء الأساسيين ضد التهديدات المشتركة في المنطقة"، معتبراً أن ضم الكيان الصهيوني إلى القيادة الوسطى سيتيح فرصا إضافية للتعاون مع شركاء واشنطن في القيادة، مع الحفاظ على التعاون القوي بين الكيان الصهيوني، وحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين..
هذا البيان يؤكد ما كتبته سابقاً، أنه "ناتو صهيوني عربي" بدعم أمريكي، ليكون توأماً للناتو الأطلسي الأمريكي- الأوروبي، في المنطقة!
كما أكده أيضا بيان "المعهد اليهودي للأمن الوطني الأمريكي"، إذ جاء في سطوره: "إن نقل إسرائيل إلى المنطقة الوسطى للقيادة العسكرية الأمريكية، جاء متأخراً بسبب عداء الدول العربية لإسرائيل، ولكن الاتفاقات شرعت الأبواب لتحقيق هدف استراتيجي لم يكن ممكناً"..
حقاً، ما كان لهذا التطبيع العسكري أن يحدث، لولا وباء التطبيع الذي اجتاح العديد من الدول العربية، وأصاب الأمة في مقتل بتبعاته الكارثية، لكن يظل الأمل معلقاً على الشعوب العربية للتصدي لهذه الكوارث المتلاحقة، والحفاظ على ثوابت الأمة وعدم تحويل بوصلتها التاريخية..
twitter.com/amiraaboelfetou
كيف تحولت إسرائيل لشريك في الانتقال السياسي السوداني؟
أبرز سبعة مخاطر لموجة التطبيع الجديدة مع الاحتلال
ما سر عداء النظام الإماراتي لفلسطين؟