قضايا وآراء

للمرة الثالثة: اليسار يتشفى في الزعيم الأزهري

1300x600
(1)
خلا خطاب رئيس الوزراء السوداني د. عبد الله حمدوك بمناسبة الاستقلال والذي إذاعة يوم الجمعة (الأول من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١م)؛ من أي إشارة لرواد الاستقلال وقادة النضال الوطني، وتجاهل تماما مجرد التحية العابرة، واكتفي بتمجيد الشهداء. وهذه المرة الثالثة تبدو مظاهر التشفي والانتقام من بين ثنايا مواقف اليسار السوداني وخاصة الحزب الشيوعي من الزعيم الوطني إسماعيل الأزهري وصحبه.

أما المرة الأولى، فكانت وضعه في غرفة صغيرة بسجن كوبر (أيار/ مايو ١٩٦٩م) بعد انقلاب جعفر النميري بمساندة وتأييد الحزب الشيوعي. لقد وضع رائد الاستقلال ورئيس أول حزب سوداني (الأشقاء، ١٩٤٧م) ومؤلف كتاب "الطريق للبرلمان ١٩٣٠م" ولم يتجاوز عمره حينها ٣٠ عاما؛ في السجن.

أما المرة الثانية، فيوم وفاته حين أذاعت حكومة مايو يوم ٢٦ آب/ أغسطس ١٩٦٩م بيانا جاء فيه: "اليوم توفي إسماعيل الأزهري، وكان معلما بالمدارس الثانوية". وبرزت دعوات لدفنه سرا، وبغض النظر عن تفاصيل الوفاة وما حاطها من ملابسات، فإن هذا الإعلان يعكس سلوكا متجذرا في اليسار السوداني وقواه منذ زمن بعيد، مع أن الأزهري عرف بتوجهاته الليبرالية وقربه من الزعيم جمال عبد الناصر، ولكن الحقد عند هؤلاء بلا حدود، ولا يعرفون قيمة التسامح والتعايش، فهم لا ينسون أبدا يوم ١٢ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٥م، حين تجمع حشد غاضب بمنزله يطالب بحل الحزب الشيوعي.

(2)
"إذا لم تحسم الجمعية التأسيسية هذا الموضوع، فسأنزل للشوارع وأقود التظاهرات".. تلك كانت عبارة الزعيم ورئيس الوزراء إسماعيل الأزهري للجماهير الغاضبة، وتطورت الأحداث وتقدم السيد محمد أحمد المحجوب، زعيم الأغلبية، بإقتراح قانون لحل الحزب الشيوعي، وجاء في مداخلته يوم ١٦ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٥م: "ترى الجمعية التأسيسية أن تتقدم الحكومة بمشروع قانون بحل الحزب الشيوعي ويحرّم قيام أحزاب شيوعية أو أحزاب ومنظمات أخرى، تدعو للإلحاد، أو تستهتر بقيم الناس أو تدعو لممارسة أساليب دكتاتورية"..

وانتهى الأمر بحل الحزب الشيوعي، وتلك قصة أخرى، ولكن الغصة ظلت في حلق الشيوعيين وأشياعهم تجاه رواد الاستقلال ورموزه، ليستكثروا عليهم مجرد ذكرى عابرة، وهم الذين أعلنوا الاستقلال من داخل البرلمان يوم ١٩ كانون الأول/ ديسمبر ١٩٥٥م، ورفعوا العلم صبيحة أول كانون الثاني/ يناير ١٩٥٦م.

(3)
إن هذا التصرف والموقف جزء من نمط التعاطي السياسي اليساري في السودان، ومن المؤسف أن الحكومة تدعي التمثيل للجميع. ويشير هذا السلوك لحقائق مهمة:

أولا: إن منهج الإقصاء السياسي متأصل في مخيلة الجماعة الحاكمة الآن، وهو سلوك لا يفرق بين طرف دون آخر، ولا يفرق بين ماض وحاضر، ولا يملك أدنى مبدئية أخلاقية تعترف بالخلاف وتباين الآراء، ولذلك فإن حالة التشفي الراهنة والعسف والتنكيل بالعاملين والضغط على المواطنين، والحذف في المناهج والتغيير في القوانين؛ كلها تدبير ممنهج ومتفق عليه، ويسعى لاختطاف الوطن بتاريخه وحاضره وتطلعاته.

وثانيا: فإن هذه الجماعة ذات طابع استعلائي، يرى أن الحياة تبدأ من حيث هم، والحضارة هي ما يمثلونه، والواقع هو ما يرونه، ولذلك يتنكرون لكل ما سوى نظرتهم، على قصورها، وقلة زادها، وقبحها.

وثالثا: فإن على الحالمين بتوسيع المواعين الوطنية واستنفار الجهود للبناء ووحدة المجتمع، إعادة كرة البصر، فهذه الجماعة لا تؤمن بذلك، ومن ينتظر انتخابات نزيهة وشفافة ومعبرة عن واقع البلاد فإن ذلك "حلم بعيد المنال" وفق معطيات الراهن وقراءته.

التحية لرواد الإستقلال ورموزه، ولكل قادة الكفاح الوطني، وتحية للشعب السوداني، ولئن تسلق بعض قصار النظر سنام أمره، فحتما ستزول المحنة ويذهب الزبد.