قضايا وآراء

نحو مقاربة مختلفة لمكافحة الفساد في تونس

1300x600
بعد الثورة، تعددت في تونس الهياكل التي تشتغل على الحَوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وهي هياكل حكومية ومستقلة تتكاتف جهودها "نظريا" من أجل الوقاية من تفشي الفساد ومنع ما يؤدي إلى إعادة إنتاجه من قبل الفاعلين الفرديين والجماعيين، وكذلك من أجل تعديل التشريعات التي كانت مرتكزا من مرتكزاته "القانونية" في عهد المخلوع وقبله. وبحكم الروح المادية أو الدهرية للفلسفة السياسية في تونس (تلك الفلسفة الموروثة من اللائكية الفرنسية و"المُتونسة" بصورة مشوّهة في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية، والمستصحبة حتى بعد الثورة من خلال الاعتراف بالبورقيبية "خطابا كبيرا" لهندسة الفضاء العمومي وإدارته)، فقد انحصر مفهوم الفساد في بعد اقتصادي محض. وهو ما جعلنا أمام مقاربة براغماتية ولكنها اختزالية للفساد، وهي مقاربة حكمت تعامل النخبة التونسية مع ميراث المخلوع حتى انحصر فساد منظومته ورموزها في ملفات فساد اقتصادي، أما الفساد القيمي أو السياسي فقد هُمّش بطريقة ممنهجة، وهو ما مهّد لعودة المنظومة القديمة للحكم دون وكلاء منذ انتخابات 2014.

لماذا لم ينجح "الاستثناء التونسي" في مكافحة الفساد؟

رغم كثرة الأطراف المتداخلة في مكافحة الفساد بالمعنى الاقتصادي أو الإداري، فإن جميع المؤشرات تنبئ بفشل الاستراتيجيات الحكومية لضرب هذه الظاهرة، التي تهدد بتحويل تونس إلى "دولة فاشلة" بالمعنى المعروف لها في العلوم السياسية، أي إلى إحدى تلك "الدول التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها الأساسية" على حد تعبير وليام زارتمان. فالنخب التي أدارت تونس بعد الثورة لم تستطع أن تتجاوز المرتبة الثالثة والسبعين سنة 2018 في مؤشر مدركات الفساد، لتتراجع عنها بمرتبة سنة 2019، كما لم تستطع تلك النخب أن تمنع حصول خسائر بثلاثة مليارات دولار سنويا نتيجة الفساد، وهو ما صرّح به رئيس هيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب. ولكنّ كل هذه المؤشرات الكمية، على خطورتها، لم تدفع الحكومة ولا المجتمع المدني إلى التساؤل عن جدوى مكافحة الفساد المالي دون وضعه في مقاربة شاملة للفساد.

ونحن عندما نتحدث عن مقاربة شاملة، فإننا لا نعني فقط تلك التوصيات التي يضعها تقرير الشفافية الدولية (مراقبة التمويل السياسي، التصدي للمعاملات التفضيلية والمحسوبية، إرساء المراقبة والمحاسبة.. إلخ)، بل نعني أساسا بناء مشروع سيادي حقيقي يقطع مع العوائق الفكرية أو الأيديولوجية، أي مع تلك التمثلات التي حالت وما زالت تحول دون اعتراف أهم الفاعلين الجماعيين بوجود أزمة مجتمعية أو قيمية عميقة لا يُمثّل الفساد المالي إلا أحد تجلياتها، وقد لا يكون التجلي الأكثر خطورة لتلك الأزمة أو الأكثر أهمية في آليات إعادة إنتاجها.

ولا شك في أن هذه المقاربة تتجاوز محاور اهتمام -بل قدرات- تلك العقول "التقنية"، التي تشتغل على الأرقام والمعطيات الكمية، دون قدرة على ربطها بالمعطيات الكيفية أو القيمية، التي تُمثل المرتكزات الأعمق للفعل الفردي أو الجماعي. إنها مقاربة تستدعي عقولا حوارية حقيقية تتجاوز فتنة أحادية الصوت والكراسات الأيديولوجية اللاوظيفية والحسابات القطاعية الضيقة، ولكنها تستدعي قبل ذلك كله القطع مع العديد من الأساطير المؤسسة للنمط المجتمعي التونسي وما يخفيه من بنية عميقة؛ ما زالت إلى لحظتنا هذه بنية جهوية- زبونية تابعة ومتخلفة، رغم كل اداعاءات المتمعّشين من هذه الوضعية المأزومة يمينا ويسارا.

هل الفساد المالي هو الفساد الأخطر على الجمهورية الثانية؟

قد يكون من المبالغة أن نحصر أسباب فشل استراتيجيات مكافحة الفساد في تهميش البعد القيمي أو عدم ربط الفساد المالي القابل للتكميم والإحصاء بأنماط الفساد الأخرى، ولكن من الصعب أن ننفيَ الدور السلبي لغياب أي إجماع -أو حتى توافق- على مشروع تحرري سيادي، يُعطي للنخب دورا يتجاوز إدارة التخلف والتبعية، وإعادة إنتاج شروطهما الفكرية والموضوعية تحت وصاية النواة الصلبة للمنظومة القديمة وعائلاتها المتنفذة.

فالفساد ليس فقط في ذلك الشخص الذي ينهب المال العام أو يوظف موقعه الإداري للاستثراء غير المشروع، وليس فقط في ذلك السياسي الذي يستمرئ المال المشبوه للتموقع ضمن الأجهزة التشريعية أو التنفيذية، إنه أيضا في ذلك "العقل الإعلامي" الذي يدعو إلى حرية التعبير ثم يضيق بكل ما يخالف أطروحاته ويهدد مصالحه المادية والرمزية، ولو كان من نواب الشعب وممن وراءهم من دافعي الضرائب، وهو في ذلك "العقل النقابي" الذي تضيق خيمته بكل من يدعوه إلى مراجعة مواقفه، ويرفض أن تتحول النقابات إلى وصيّ على الحياة السياسية، أو إلى حليف موضوعي لشبكات الفساد التي تتحرك تحت غطاء نقابي، وهو أيضا في "العقل الأكاديمي" الذي ما زال أسير المقاربات الاستشراقية للإسلام وللهوية، والسادن الأعظم لأساطير الدولة- الأمة، التي أثبتت الأحداث والأرقام أنها جزء من الأزمة البنيوية التي تعرفها تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. والفساد هو كذلك في "العقل السياسي المؤدلج"، الذي ما زال يصر على تسميم الحياة العامة بإشكاليات ومقاربات ثقافوية، لا يستفيد منها إلا الراغبون في حرف الرأي العام عن قضاياه الحقيقية.

هل يمكن مكافحة الفساد دون التمكين لمبادئ قيمية مشتركة؟

ختاما، فإن وهم النجاح في الانتقال السياسي -أي المصادرة على وجود قاعدة فكرية صلبة لإدارة الانتقال الاقتصادي-، هو في تقديرنا أحد أسباب فشل الاستراتيجيات الحكومية في مكافحة الفساد؛ فالحقل السياسي المتشظي والمفتقر لأي مشروع مواطني مشترك، قد أصبح عائقا أساسيا أمام نجاح تلك الاستراتيجيات. ولكننا نرى أن أزمة الحقل السياسي نفسه هي مظهر لأزمة مجتمعية أعمق، وهي أزمة يمكننا تلخيصها في عجز الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة التي أسسها بورقيبة (وورثها المخلوع وأورثها للنخب الحاكمة بعد الثورة) عن إيجاد منظومة قيمية قانونية أو عقلانية تحل محل المنظومة القيمية التقليدية ذات الجذر الديني.

فبعد تهميش المنظومة القائمة على ثنائية الحلال والحرام أو الشرعي وغير الشرعي، عجزت النخب التونسية بمختلف منحدراتها الأيديولوجية العلمانية عن التمكين لثنائية القانوني وغير القانوني، وعن جعل تلك الثنائية أساس المشترك المواطني أو الكلمة السواء المؤسسة "للعيش معا".

ولا شك في أن أسباب ذلك العجز تتجاوز حدود هذا المقال، بل تتجاوز أي جهد فردي، وهو ما يدفعنا إلى أن نطرح هذا السؤال على أمل المساهمة في الإجابة عنه في مواضع أخرى: لماذا فشلت النخب الحداثية التونسية في نشر الثقافة العقلانية وفي التمكين لسلطة القانون الوضعي. أو لماذا تحوّل المشروع الوطني الجامع إلى مشروع جهوي زبوني تابع، رغم كل ادعاءات النخب التونسية قبل الثورة وبعدها؟

twitter.com/adel_arabi21