أخبار ثقافية

"I Know This Much Is True".. صراع الهوية والتاريخ

تنتقل أحداث المسلسل ببراعة بين الماضي والحاضر- تويتر

في مسلسلها القصير "I Know This Much Is True"، الذي أنتجته هذا العام، تضعنا HBO أمام كمٍ هائلٍ من المشاعر والعواطف الكبيرة التي تُبقينا متسمّرين أمام الشاشة متابعين أحداث القصة التي تزيد قليلًا على الست ساعات ويؤدّي بطولتها مارك روفالو متقمّصًا دور توأمين متطابقين تشاركا في الرحم وحُمّلا زخم التاريخ والماضي نفسيهما قبل أنْ يقود القدر كلًّا منهما لمسارٍ وطريقٍ مختلف.


يبدأ المسلسل، المبنيّ على روايةٍ تحمل نفس الاسم، بمشهدٍ مروّع يقوم فيه توماس بيردزي بقطع يده اليمنى في مكتبةٍ عامّة معلنًا أنّه تلقّى رسالةً من "الله" يأمره فيها بالتضحية بيده لتجنيب أمريكا خوض حرب الخليج عام 1990، ووقف حروبها الوحشية وسياساتها المستبدّة التي ستنهي العالم بحدّ اعتقاده.


ومنذ تلك اللحظة، يغوص المسلسل في معاناة التوأمين ببطء. يروي دومينيك قصّتهما بينما عليه أن يقوم بالاعتناء بشقيقه التوأم المصاب بالفصام والبرانويا ثمّ محاولاته المريرة لتخليصه من مؤسسة عقلية قررت أنّه يمتلك دوافع تدميرية تشكّل خطرًا على المجتمع فحجزت عليه وارتأت أنّ جرعاتٍ كبيرة من الأدوية المخدّرة والمهدّئة للأعصاب هي جلّ ما يمكن معاملته به.


وفي حين أنّ المشهد الأوّل المروع، على الرغم من أنه ليس مصورًا بشكل مفرط، هو العامل المحفّز للقصة العائلية المأساوية، إلا أنه عنصر واحد فقط في رواية دومينيك الحزينة. فبالإضافة إلى حالة أخيه، التي تثقل كاهله بالشعور بالذنب والشفقة، فثمّة كمٍ هائل من الذكريات الأليمة التي تطارده.

 

اقرأ أيضا: كلب "المغامرون الخمسة" ولغز محمود سالم


تنتقل أحداث المسلسل ببراعة بين الماضي والحاضر، حيث تلقي باستمرار دومينيك في أحلام أو كوابيس حول طفولته وشقيقه وسنوات دراستهما الجامعية عندما تقدم توماس ببطء من طفل حساس إلى بالغ مريض عقليًا تحاصره هلوسات الفصام وجنون الشكّ قبل أنْ ينتهي به المطاف من مصحٍّ عقليّ إلى آخر.


لاحقًا، يبدأ دومينيك بالحديث مع معالجته النفسية عن بعضٍ من تجارب ماضيه، وقراءة مذكّرات جدّه المهاجِر الإيطالي الذي قدم إلى الولايات المتحدّة في بداية القرن الماضي لاهثًا وراء الحلم الأمريكي وساعيًا وراء تحقيق الثروة والمكانة الاجتماعية التي عجز عن تحقيقها في وطنه الأصليّ، ليكتشف شيئًا فشيئًا بعض الأسرار المظلمة حول تاريخ عائلته وليعرف أباه الحقيقيّ الذي بقيَ طوال سني حياته الأربعين سرًا دفنته أمّه معها بعد وفاتها بالسرطان.


صراعٌ ضدَّ التاريخ


قد يبدو المسلسل وأحداثه قصّةً شخصيةً لرجلٍ مرّت عائلته بعددٍ من الظروف الصعبة. لكنّه في مجمله أكثر من ذلك. فهو سردية عن صراعٍ بين ذلك الرجل، والتاريخ الذي حُمّل به بما فيه من أزمةٍ في الهويّة تعود جذورها إلى جدّه والعائلة التي أسّسها من ذكورية مفرطة وعدوانية صارخة وتعصّبٍ مقيت تجاه الآخرين. وهو ما سنكتشفه لاحقًا حينما تنحلّ خيوط اللغز ونعرف أنّ الأب المخفية هويته هو من السكّان الأمريكيّين الأصليين الذين كرههم الجد الوافد من إيطاليا وعاداهم دونما أسباب.


عدا عن ذلك، يعمل المسلسل ببراعة على تسليط الضوء على العلاقة الصارخة بين كلٍّ من الأمراض النفسية من جهة، وبين الظروف الاجتماعية والسياسيّة التي تحكم المجتمع من جهةٍ أخرى. فالفصام والهلوسات التي يعاني منها توماس تتقاطع بشكلٍ جذريّ مع السياسة الأمريكية الحديثة سواء في ما يتعلّق بالشؤون الداخليّة للدولة أو الخارجية وعلاقاتها مع العالم المحيط. والإرهاق النفسي والإجهاد العاطفي الذي يعاني منه دومينيك هو أيضًا من حصيلة الظروف تلك.

 

اقرأ أيضا: مهرجان القاهرة السينمائي.. كيف يفكر الموظفون؟


كذلك، يُلقي الضوء على الآليات التي ينتهجها الطبّ النفسيّ في التعامل مع المرضى النفسيين من خلال عزلهم في مصحّاتٍ للأمراض العقلية وحرمانهم من حريّاتهم وعائلاتهم بحجّة تشكيلهم خطرًا على الجماعة. وهو موضوعٌ لا يمكن قراءته بعيدًا عن سياقه التاريخي والاجتماعي؛ ألا وهو أزمة الغربة والسياسة التي تحكمه وما تزال تصدّر مزيدًا من المشكلات النفسية والاجتماعية.


فكما أشار الفيلسوف والمفكر هربرت ماركوزه في كتابه "الإنسان ذو البُعد الواحد"، بأنّ "المجنون" أو "المريض النفسيّ" هو حتمًا كبش الفداء الذي تضحي به "المجتمعات الرحيمة" لكي تنقذ تضحيتُه المجموعةَ كلها من التفكك والأخطار. وأنّ "الجنون"، بمعناه الواسع، أصبح صورة مجازية لكل ما يزعج المجتمعات ذات المقاييس الموحدة "للإنسان ذي البعد الواحد". فعندما تكون مختلفًا عن المجموعة، تكون ضدها. وإذا كنت ضدها، فقد تدمرها. وبالتالي، يجب إقصاؤك وحجرك في مصحٍ عقليّ حتى تحمي المجموعة نفسها من الخطر الذي قد يسبّبه الاختلاف.


وهي فكرة ركّز عليها عددٌ كبيرٌ من مناهضي الطبّ النفسي في نهاية القرن الماضي، سواء ممّن اشتغل واهتمّ بالعلوم النفسية والاجتماعية أو في الأدب والسينما وغيرها. ففي جميع الأحوال، ليس المريض هو الذي بحاجة للعلاج والعزل وزيادة جرعات الدواء المخدرة، بل الأسرة والمجتمع الذي يُعاني هو نفسه من الفصام نتيجة الأزمات التي تصدّرها السياسات الحاكمة للعالم.


وكما أنّ الكثير من الأمراض النفسية أو العقلية قد لا تكون نتيجةَ عاملٍ محدّدٍ أو واحد، إلّا أنّ المجتمع، والأسرة التي هي لبنته، والبيئة المحيطة بها، يمكن أنْ تشكّل جميعها عوامل مهمّة في تفاقم الحالة أو تحسّنها.