مدونات

"وستبقى ثائرة".. الصمت الذي يسبق العاصفة (6)

سيلين ساري
استيقظ أدهم من نوم كارثي، لم ينعم فيه براحة، فكان يستيقظ كل نصف ساعة تقريبا بسبب كوابيس متتالية كلها "لي لي" تصرخ فيها من الألم.

قرر أن يحلق ذقنه ويأخذ حماما ساخنا ربما يستريح من تشنج العضلات الذي يفتك بعنقه.

ولكن فكر أن يطمئن أولا على "لي لي" وأمسك بهاتفه لكنه توقف لأنه يعلم أنها ستسأله إن كان تحدث مع أصدقائه بشأن عمر أم لا؟

ماذا سيخبرها؟

هل يخبرها أنه علم أن عمر أصبح رجلا من رجال أمن الدولة المرضي عنهم؟ وأنه يشك أن له صلة باعتقالها؟

يا الله لا يستطيع أن يفعل بها هذا حتى لو كان الأمر سيزيح عمر من قلبها. هي ما زالت ضعيفة لن تتحمل أي صدمة.

وضع الهاتف واتجه للحمام ليستحم أولا لعل الماء الساخن يساعده على التفكير بطريقة منظمة أكثر.

اتجه بعد ذلك ليحضر إفطاره فقد مر يوم كامل بلا طعام، والأهم أنه يشعر بحاجة شديدة للقهوة. فعل كل هذا والقلق على "لي لي" يقتله. لن يستطيع الانتظار أكثر من ذلك فليحدثها وليكن ما يكون، سيتصل ولكن إن لم تجب فورا سيغلق الخط ربما ما زالت نائمة.

مع أول جرس ردت "لي لي" بلهفة ولكن صوتها ما زال متعبا: صباح الخير أستاذ أدهم، كيف حالك؟

التحية الرسمية أزعجته ولكنه رد بهدوء: صباح النور، أنا بخير كيف حالك أنت؟

هل نمت جيدا؟

هل تناولتِ الإفطار؟ أخذتِ الدواء؟

هل تشعرين بأي ألم؟

كل تلك الأسئلة قالها دفعة واحدة دون انتظار أن تجيب على أي سؤال..

لم يسمع إجابة، فنادى عليها بقلق:

"لي لي" هل أنت بخير؟

لماذا لا تجيبين؟

ليسمع صوتها الهادئ: وهل أعطيتني أي فرصة للكلام؟

لا تقلق أنا بخير، ثم صمتت، لكنه أحس بتوترها تريد أن تسأله ولكن مترددة. كان يريد أن يستغل تلك الفرصة لينهي المكالمة. لكنها سألته بتردد واضح: أستاذ أدهم هل تحدثت مع أحد من أصدقائك عن عمر؟ أعلم أنك كنت مرهقا وأن الوقت ما زال باكرا لكن قلت ربما تكون قد تحدثت مع أحدهم؟

لم يطاوعه قلبه أمام هذا الصوت المتعلق بالأمل أن ينكر أنه اتصل.

صمت لحظة ثم قال لها الآن نحن أصدقاء ولا نتحدث عن العمل فلا مجال إطلاقا للألقاب بيننا.. اسمي أدهم هل اتفقنا؟

أجابته "لي لي" التي لم تكن تريد أن تضيع لحظات بالجدال: حسنا أدهم هل اتصلت بأحد؟

أجابها: نعم وأعطيت أحدهم كل البيانات وأخبرني أنه بأقرب وقت سيأتي لي بالمعلومات كاملة عنه.

سمع تنهيدة ارتياح وأمل وكأن هناك دفئا غلف صوتها وهي تردد كلمة "يا الله" بطريقة اقشعر لها بدن أدهم وأحرقت الدموع عينيه، كيف لشخص أحبته تلك الفتاة بهذه الطريقة أن يفعل هذا بها؟

تمنى أدهم أن تكون ظنونه خاطئة حتى لا تنكسر "لي لي" مرة أخرى.

ثم تمنى يوما سعيدا وأغلق الخط.

مرت خمسة أيام ثقال على أدهم و"لي لي"، كان يتصل بها يطمئن عليها ويغلق. لاحظت هي شروده وصمته غير الطبيعي ولكنها كانت تخشى أن تسأله خوفا من أن تكون أجابته متعلقة بعمر.

هل مات؟

لم يستطع الوصول إليه؟

هل عاد لحياته ولكنه نسيها ووجد من تشاركه فيها؟

أسئلة كثيرة كانت تدور برأسها وتخيفها.

أما أدهم فكان وضعه أسوأ لا يعرف كيف سيواجه "لي لي" بما لديه من معلومات ولا بالشكوك التي أصبحت قاب قوسين من أن تصير يقينا.

طلب من هيثم أن يرسل له صورا لعمر وبعض الأخبار التي كانت تتحدث عن عمر، وكيف أنه أصبح من رجال النظام الذين يحاربون بسيفه.

لقد اتصل هيثم به وأخبره أنه وعمر سيصلان إلى اليونان غدا، لا بد أن يمهد الأمر لـ"لي لي".

اتصل بها وكعادتهما في الفترة الأخيرة تبادلا التحية ثم أخبرها أنها مدعوة على الغداء ببيت عمته، وأنه سيمر عليها ليذهبا معا، بقلق وافقت فقد شعرت أن هناك شيئا ليس على ما يرام.

أما أدهم فصمم على ألا يتركها وحدها بعد أن يخبرها بما توصل إليه من معلومات، لا بد أن تكون تحت عينيه حتى موعد المقابلة، وأخذ يدعو ويتمنى ألا تتأذى "لي لي" من تلك المقابلة.

في الساعة الثالثة مر أدهم على "لي لي".. جميلة كعادتها وجهها لا يُقرأ لكن عينيها بهما توتر، زاد من ألم أدهم وخوفه عليها.

كانت ترتدي بدلة باللون الرمادي بها نقط سوداء زادت من جمالها وغموضها.

اتجها إلى منزل عمته.. لم يتحدثا طوال الطريق.

إنه منزل ريفي جميل تحيط به الأشجار ألوانه الدافئة ترحب بك قبل أصحابه، ظهرت عمة أدهم.. سيدة تجاوزت السبعين ربما ولكنها ما زالت جميلة.. عيناها تلمعان بحب أمومي، عانقت أدهم ورحبت به والتفتت إلى "لي لي" لتحتضنها هي الأخرى وكأنها تعرفها، لتضحك وهي تقول لـ"لي لي": ألا يعطيكي هذا الدكتاتور راتبا كافيا يا ابنتي؟ لماذا أنت ضعيفة هكذا؟

ابتسمت "لي لي" لكلام العمة الذي توافق مع وصفها لأدهم على أنه دكتاتور، ليتدخل أدهم قبل أن ترد "لي لي": بالله عمتي تلك الصغيرة التي تشفقين لحالها يمكنها أن تعدم كتيبه بتجميد دمائهم بنظرة، هي لا تحتاج الى محام.

وضحك الجميع ودخلوا المنزل.

مر الغداء بهدوء ثم طلب أدهم من "لي لي" أن تأتي معه لغرفة المكتب وطلب من عمته أن ترسل لهم القهوة.

تحركت "لي لي" وهي تشعر أن هناك عاصفة قادمة ستزعزع أركانها، لا تعرف لم يسيطر عليها هذا الشعور.

أجلسها أدهم على كرسي وجلس على الكرسي المقابل لها، ثم أخذ نفسا عميقا، لاحظ أن "لي لي" تضغط أصابع يدها بطريقة عصبية، أمسك يدها فانتفضت وقال لها بصوت هادئ: لمَ التوتر يا أميرتي الشجاعة؟

لكنها لم تستطع أن تتكلم. نظرت له بعينين واسعتين يملأهما الخوف والترقب لدرجة أن أنفاسها كانت مسموعة ومتلاحقة. لم يرد أن يطيل عذابها يكفي ما عانته وما ستعانيه.

أخرج هاتفه وأعطاه لها وهو يقول: هل هذا هو عمر حبيبك؟

بيد مرتعشة أمسكت الهاتف وهي تنظر لأدهم ثم نظرت للهاتف. فتحت فمها وازدادت عيونها اتساعا وانهمرت دموع حمقاء حجبت رؤية الصورة لتمسحها بيد عصبية بسرعة، تريد أن تراه، أن تشبع عيونها منه، وبصوت متقطع أجابت نعم هو أنه عمر هو.. صارت تضحك وتبكي في آن واحد، لا ترفع عينيها عن الصورة، إنها صورة جديدة له فما يرتديه من ملابس هي لم ترها من قبل، يا الله هذا معناه أنه ما زال حيّا.

قاطعها صوت أدهم: هناك صور أخرى أريد أن تريها.

وبدون أن ترفع عينيها عن الهاتف أخذت تحرك الشاشة لتظهر لها صور أخرى فتزداد ضحكتها اتساعا، وصورة أخرى، وأخرى... فجأة بدأت ضحكتها تتلاشى وتحل محلها صدمة.. تجمدت "لي لي" في مكانها، واضح أنها تقرأ أحد الأخبار التي أرسلها هيثم والتي تتحدث عن أن عمر أصبح ممن يدافعون عن النظام.

حركت الشاشة مرة أخرى وكلما شاهدت صورة أو خبرا يزداد وجهها شحوبا، ليقطع أدهم الصمت قائلا: سيصل عمر غدا إلى هنا مع الشخص الذي كلفته بالبحث عنه.

انتفض جسد "لي لي" ونظرت له وتكلمت بصعوبة: أي عمر سيأتي؟

الذي أعرفه أم هذا؟

قال لها: ألم تقولي إن هذا هو عمر الذي تعرفينه؟ هزت رأسها وقالت لا أعرف.. لا أعرف.. الوجه هو.. الضحكة هي.. لكن ما هو مكتوب محال أن يكون هو..

صمت أدهم واقترب منها، أخذ الهاتف ووضعه على المكتب، أمسك يديها ليخفف من ارتجافهما، وقال لها آمرا: "لي لي" انظري إليّ، أنا لن أتركك تواجهين أي شيء وحدك، لكن هناك أمرا آخر أريد أن تكوني على علم به، الشخص الذي سيأتي مع عمر هو ضابط أمن دولة عمر يعمل معه.

هنا شهقت "لي لي" شهقة قوية كأن أحدهم طعنها بقلبها وأن روحها تنتزع منها، كانت تنظر لأدهم لكنها لا ترى شيئا ولا تسمع شيئا.