يوم 16 تشرين أول (أكتوبر) الجاري لم يكن يوما عاديا في فرنسا، حيث اهتز الرأي العام لمصرع مدرس تاريخ في مدرسة إعدادية بقرية (كنفلون سانت هونورين) الهادئة المطمئنة بسكين شاب من أصول شيشانية سنه 18 عاما، تم بعد ذلك قتله برصاص الشرطة الفرنسية.
هذه الحادثة المرعبة جاءت بعد أيام قليلة من جريمة إرهابية أخرى تمثلت في طعن رجلين مدنيين واقفين أمام المقر السابق لصحيفة (شارلي إيبدو) التي نشرت عديد المرات رسوما كاريكاتورية يظهر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يرتدي على رأسه عمامة سوداء في شكل قنبلة يشتعل فتيلها وتستعد للانفجار.
ونذكر أن الأوساط السياسية والإعلامية الفرنسية (والأوروبية) عموما انطلقت من الحدث الأول لتعلن الحرب القانونية والأمنية على ما سماه رئيس الجمهورية الفرنسية (إيمانويل ماكرون) "الإسلام السياسي المتطرف" ونعت الجريمة الأولى ثم الثانية بأنهما عمل "إسلامي متطرف". وبهذه المصطلحات أضاف السيد ماكرون ترسيما في مستوى رئاسة الجمهورية لعبارة ربطت بين دين سماوي هو الإسلام وبين ظاهرة اجتماعية منحرفة هي الإرهاب لدى قلة قليلة من الشباب الذي ولد وتربى في مدارس الجمهورية الفرنسية وبعض منهم أتوا من دول مسلمة مستها بؤر الحروب الأهلية والإرهاب مثل الشيشان وأفغانستان وباكستان والصومال.
المهم بالنسبة لنا كمسلمين مهما كانت جنسياتنا هو أن نعلن إدانة بدون تحفظ لكل جريمة ترتكب باسم الدين مهما كان الدين، ولا ننسى بأن المسلمين أيضا كانوا خلال الشهور الأخيرة ضحايا لإجرام مسيحي متطرف أيضا، ففي أحد مساجد نيوزيلندا دخل إرهابي مسيحي متطرف وقتل بدم بارد 52 مصليا بريئا لا ذنب لهم سوى الصلاة في مسجد بكل بساطة، ثم نشر المنفذ الرئيسي للهجوم على المصلين في مدينة كرايست تشيرتش بجزيرة ساوث آيلاند بنيوزيلندا بثا مباشرا للمجزرة التي قام بها بحق مسلمين خلال أدائهم لصلاة الجمعة مما أدى إلى سقوط العشرات بين قتيل وجريح.
وأظهر مقطع للفيديو بلغت مدته نحو 17 دقيقة كيف بدأ الجاني ـ ويدعى بريندون تارنت ويرتدي ملابس مموهة تشبه ملابس الجيش ـ تنفيذ المجزرة. واستقل منفذ الهجوم ـ وهو مواطن أسترالي ـ سيارته المدججة بعدد من البنادق الآلية، وتوجه نحو المسجد وفور دخوله بدأ في إطلاق النار بشكل متواصل نحو المصلين وأردى العشرات منهم قتلى غارقين في دمائهم.
قول الرئيس ماكرون بأن الإسلام في أزمة لعله قول صحيح ولكنه ناقص لأن كل الأديان دخلت في نفس الأزمة خلال عقود من التهميش والقمع والقهر واختلال التوازنات الدولية وانهيار منظومات القيم الأخلاقية والدينية التقليدية التي كانت منذ ألاف السنين تحصن المجتمعات وتنشر الأمن والسلام
نحن نذكر بهذه الحقائق حتى لا يغفل المسؤولون في الدول الأوروبية عن مبدإ حقيقي، وهو أن التطرف ليس حصريا مرتبطا بالإسلام، بل إن للمسيحية متطرفين متعصبين ولليهودية صهيونية مجرمة تغتال يوميا وأمام الكامرات عشرات الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين وللهندوس كذلك وللسيخ أمثالهم بالآلاف، وهذه التيارات المتطرفة ولدت وترعرعت في جميع الأديان وليست حكرا على دين واحد بل هي نتيجة أزمات في السياسة وردود أفعال قصوى ضد حالات إحباط ويأس ومظالم وفرض هيمنات تتفاقم يوميا ولا تعالجها لا الدول ولا منظمة الأمم المتحدة بما تستحقه من جدية ومن قرارات ومن مواقف.
فقول الرئيس ماكرون بأن الإسلام في أزمة لعله قول صحيح ولكنه ناقص لأن كل الأديان دخلت في نفس الأزمة خلال عقود من التهميش والقمع والقهر واختلال التوازنات الدولية وانهيار منظومات القيم الأخلاقية والدينية التقليدية التي كانت منذ ألاف السنين تحصن المجتمعات وتنشر الأمن والسلام وتعويضها بمنظومات فاشية دولية تعلن الحرب على الحضارات باسم شعارات (عولمية) ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.. فقد استقر في العقل الباطن للشعوب المسلمة المستضعفة مثلا أن الرئيس ترامب وبصريح خطبه يمهد لعالم جديد فيه شرق أوسط جديد يقوده اليمين الإسرائيلي المتطرف قاتل الأطفال ومحتل الأرض خارج كل قانون دولي وملغيا لكل المواثيق السلمية الموقعة وهو نظام "جديد" جائر بما فيه من "صفقة القرن" المفروضة على الأنظمة والمرفوضة شعبيا وهذا الإنحراف العالمي الذي يصفي قضية شعب فلسطين تماما بينما هي في قلب كل عربي مسلما كان أو مسيحيا ويعلن انتصار عقيدة صهيونية ـ إنجيلية متطرفة عنصرية هو انحراف تنتج عنه حركات متطرفة وتتحول إلى إرهاب هنا في الشرق الأوسط وحتى في عقر ديار الغرب الأمن المطمئن لأن حكوماته غفلت عن معالجة الأزمة العميقة بجدية وحكمة وعدل منذ الخمسينيات وهي تحصد اليوم نتاج غفلتها.
والغفلة بدأت منذ التخبط الرسمي الأوروبي في مواجهة ملفات الجاليات المسلمة في صلب مجتمعاتها فحشرت أبناء هذه الجاليات فيما يشبه المحتشدات وتركت الحبل على غارب اليمين العنصري المتطرف ليهمش شباب المسلمين المسالمين ويعاملهم بتمييز عنصري واضح عندما يطالبون بشغل أو بدراسة أو بسكن لأنهم مرفوضون ملعونون بسبب أسمائهم أو أشكالهم أو أعراقهم.
نحن نرجو أن يستفيق الغرب ويستفيق بعض المسلمين من غفلة الأخطاء المتراكمة ليفتحوا أبواب الأمل في وجوه الجميع دون تمييز أو عنصرية لأن الأرض واسعة لجميع الأديان والحضارات.
هل سيعود بايدن إلى الاتفاق النووي؟
مناظرة بايدن ترامب.. هل أفلست الطبقة السياسية الأمريكية؟