بعد سنة من جلوس الرئيس التونسي على كرسي قرطاج، يبدو من المشروع لكل المشتغلين بالشأن العام - بل لكل المواطنين والمواطنات - أن يقيّموا أداءه. ولكنّ هذا التقييم يجب أن يستصحب جملة من المتغيرات التي قد يؤدي إهمالها إلى استنتاجات خاطئة. من ذلك مثلا، قصر الفترة التي هي موضوع التقييم (فترة لا تكفي كما قال أحد أنصار الرئيس، إلا لاستكشاف الصلاحيات والأجهزة وتشكيل فريق رئاسي متماسك)، وصلاحيات الرئيس حسب الدستور (كي نعرف كيفية تعامل الرئيس مع تلك الصلاحيات بالتوسيع أو بالتضييق وانعكاسات ذلك على الحياة العامة للتونسيين)، واستثنائية المرحلة (الأزمة السياسية الحادة التي تعرفها الأحزاب وتنعكس على أعمال مجلس النواب بل على تشكيل الحكومات بعد الانتخابات الماضية من جهة أولى، ووباء كورونا وآثاره الاقتصادية والاجتماعية الكارثية من جهة ثانية).
الرئيس بين الشعبية والشعبويّة
لفهم أداء الرئيس قيس سعيد، سيكون علينا أن نستحضر معطيين هامين كان لهما تأثير كبير في بناء الجملة السياسية للرئيس وفي هندسة علاقاته بباقي الفاعلين السياسيين. أما المعطى الأول فهو غياب أي مشروع انتخابي للرئيس وانحصاره أساسا في وعود بتحقيق ما يريده الشعب. ولا يعنينا في هذا المقال تفصيل القول في "شعبوية" هذا الخطاب ومخاطر انزلاقه الممكن للتقاطع موضوعيا مع "الفاشية" (خاصة ورثة التجمع ومنطق اليسار الاستئصالي) التي تدعي هي الأخرى تمثيل الإرادة الشعبية وتطعن في كل تمثيلية أخرى منافسة، بل يعنينا أساسا عدم امتلاك الرئيس مشروعا سياسيا مفصلا يتجاوز مستوى الشعارات والعموميات، وغلبة منطق البديل للنخبة السياسية بأجمعها لا منطق الشراكة.
يعنينا أساسا عدم امتلاك الرئيس مشروعا سياسيا مفصلا يتجاوز مستوى الشعارات والعموميات، وغلبة منطق البديل للنخبة السياسية بأجمعها لا منطق الشراكة
أما المعطى الثاني الذي يرهن أداء الرئيس فهو كيفية فهمه أو توظيفه للإجماع الوطني حوله في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية. فقد اعتبر السيد قيس سعيد أن النسبة التي تفوق السبعين في المئة من الناخبين التي اختارته أمام منافسه السيد نبيل القروي؛ هي نسبة الداعمين لمشروعه (وهو مشروع هلامي لم يضبطه الرئيس ولا أنصاره إلا في مستوى بعض الأطروحات التي تهاجم الأحزاب وتدعو إلى تعديل الدستور نحو نظام رئاسي)، وتناسى الرئيس أنّ تلك الأصوات لم تكن تعني الانحياز له بقدر ما كانت انتخابا عقابيا لخصمه في محورين أساسيين: الفساد والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي كل الأحوال لم تكن القاعدة الانتخابية للرئيس قاعدة ثابتة أو متجانسة، بل كان قاعدة مؤقتة وسياقية من جهة أولى، وقاعدة "مهجّنة" أيديولوجيا وحزبيا من جهة ثانية.
هل ينفع منطق البديل في بناء مشروع وطني توافقي؟
انطلاقا مما تقدم أعلاه (أي انطلاقا من تحرك الرئيس لخدمة مشروع هلامي يجعله يتموقع ضدا للطبقة السياسية وبديلا لها، وكذلك تضخم "وعي الزعامة" واحتكار تمثيل الإرادة الشعبية غير المزيفة من طرف الأحزاب والمجلس التشريعي)، كان من الصعب على الرئيس قيس سعيد أن يتعامل مع المشهد السياسي باعتباره شريكا أو حكما محايدا.
فتعفين المشهد الحزبي وتأزيم العلاقة بين الفرقاء داخل مجلس النواب (حتى لو كان ثمن ذلك هو تعطيل إرساء المحكمة الدستورية وغيرها من الاستحقاقات) هو أمر يخدم الرئيس ومشروعه لتعديل الدستور. ولعل ما فعله الرئيس عند رجوع المبادرة إليه في اختيار رئيس الوزراء هو أكبر دليل على سعيه إلى تهميش الأحزاب الكبرى، ورغبته في جعل رئيس الحكومة واقعيا مجرد وزير أول يخضع لتوجيهات القصر الرئاسي أكثر من خضوعه لرقابة مجلس النواب. وهي خطوة هامة تعني تبخيس الأحزاب (بتشكيل حكومة "كفاءات مستقلة")، تمهيدا لطرح مبادرات تشريعية قد يكون أساسها تعديل النظام السياسي وتحجيم دور الأحزاب فيه.
تعفين المشهد الحزبي وتأزيم العلاقة بين الفرقاء داخل مجلس النواب (حتى لو كان ثمن ذلك هو تعطيل إرساء المحكمة الدستورية وغيرها من الاستحقاقات) هو أمر يخدم الرئيس ومشروعه لتعديل الدستور
في ملف العلاقات الخارجية، فقد تواترت المواقف الرئاسية التي لم تبلغ حتى سقف أداء المخلوع ذاته
هل أفلح راشد الغنوشي في "ضبط" قيس سعيد؟
"الديمقراطية" و"الاستثناء الإسلامي" (2)
"الديمقراطية" و"الاستثناء الإسلامي" (1)