يقدم الفيلسوف التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي، في هذه الأوراق التي تنشرها "عربي21"، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور أبو يعرب على صفحته الرسمية، قراءة علمية لواقع النخب في العالم العربي، وعلاقتها بالتغيير المنشود..
ومعلوم أن أولى خطوات العلاج أو الحكم على الشيء تبدأ أولا من التشخيص، وهذا ما انطلق منه الدكتور أبو يعرب في محاولة لتفكيك مفهوم النخبة وعلاقته بالمجتمع في مختلف مكوناته المعرفية والدينية والاقتصادية والسياسية.
وإذ تنشر "عربي21" هذه الورقة على مجموعة من الحلقات، فإنها تسعى لتوسيع النقاش بين المنشغلين بقضايا الفكر العربي حول دور النخب في صناعة التغيير الجاد، وإنجاز مطالب الشعوب في التنمية على جميع المستويات..
مقومان لكل مرجعية في السياسة
لا يوجد نظام سياسي لا يتهدده انقلاب مرجعيته الروحية والخلقية التي تتأسس عليها شرعيته من قيم دين الله إلى قيم دين العجل.
فالروحي والخلقي مقومان لكل مرجعية في السياسة حتى لو كانت ذات نظام علماني؛ لأن كل أمر واقع لا بد له من تأسيس على أمر واجب في كل أفعال الإنسان، حتى لو ينسب الثاني إلى الطبيعة مثل القول بحقوق الإنسان الطبيعية.
وإذا غاب هذا الأساس الروحي والخلقي، تحول الأمر الواقع إلى أمر واجب وانتفى الفرق بين القانون وعدمه، وبين النظام وعدمه، وبين الأخلاق وعدمها؛ فيكون الإنسان حينها غير مدرك لمعنى الرد إلى أسفل سافلين، أو الخسر (في سورة العصر)، سواء ادعى أصحابه تأسيس المرجعية الروحية والخلقية على الدين والنقل، أو تأسيسه على الطبيعة والعقل.
ولا يمكن أن نفهم العلة التي تجعل سلطان العجل هو الغالب في كل الجماعات، وقلّ أن ينجو منه أحد من دون أن نقدم محاولة في تكوينية سلطان البشر بعضهم على بعض في كل الجماعات، وخاصة العلاقة السلطانية بين الجنسين سواء كانا مختلفين أو مثليين، وهي محاولة تبين أن السلطان أيا كانت طبيعته، شديد التعقيد والفشو في كل مجالات الحياة، وخاصة في بناها الأولى من كيان الإنسان العضوي والروحي.
وهو ما يجعله شديد الارتباط ببنى الفكر الأكثر قربا من الحياة البدائية إن لم يكن من الحيوانية، لكأن الأمر يتعلق بأمر ملازم لحياة الإنسان العضوية والروحية، امر ملازم لوجوده في كل مراحل تطوره وتطور الحضارة الإنسانية.
بذلك، يمكن أن نفهم كيف يصبح دين العجل الذي يجمع كل هذه العوامل السلطانية في رمزين هما أكثر الرموز كونية، وأولهما يتلعق برمز التبادل المادي القابل للتحول إلى رمز التواصل الروحي، وهو العملة أو رمز الفعل التبادلي، والثاني يتعلق برمز التواصل الروحي القابل للتحول إلى رمز التبادل المادي، وهو الكلمة أو فعل الرمز التواصلي.
ولهذه العلة، فهو يصبح المرجعية الفعلية الأكثر كلية والأكثر دلالة على سلطان الإنسان وأداة حريته المادية وحريته الروحية، أي رمز الملكية المادية وأداة التبادل مطلق الكلية ورمز الملكية الروحية وأداة التواصل مطلق مطلق الكلية.
وهذه المرجعية تتغطى أو تتنكر برداء المرجعية الدينية أو المرجعية الفلسفية في الممارسة السياسة بمعناها الشامل، أي سياسة عالم الشهادة بالأبعاد الخمسة في علاقتها بما وراء مجالاتها، أي ما وراء مجال الإرادة، وما وراء مجال المعرفة، وما وراء مجال القدرة، وما وراء مجال الذوق، وما وراء مجال الرؤية؛سواء كانت دينية أو فلسفية؟
محددات سلوك الإنسان
ذلك ما أريد البحث فيه؛ فالوصول إلى دين العجل وسلطان بعديه في سلوك الإنسان، بالذهب معدنه (وظيفة العملة أداة التبادل أيا كان شكلها)، وبالخوار صوته (وظيفة الكلمة أداة التواصل أيا كان شكلها)، يمر بعدة مراحل للوصول إلى تعيين كل القيم الاقتصادية والثقافية في هذين الرمزين للوظيفتين:
1 ـ فالعملة تصبح رمز سد الحاجات المادية التي تمثل كل أنواع سد حاجات المائدة وحاجات السرير وصحة الإنسان وشروط رفاهه المادي في كيانه وفي محيطه، وهي الحاملة لكل القدرة التبادلية في الجماعة؛ لأنها تمكن من الحصول على كل ما يحتاج إليه لسد هذه الحاجات، وتمكن من ثم حتى من أدوات سد الحاجات الروحية.
2 ـ والكلمة تصبح رمز سد الحاجات الروحية التي تمثل كل أنواع التعبير بالكيان، وبما يعبر عن تبليغ العواطف والأحاسيس؛ أي كل حاجات فن المائدة وفن السرير وسعادة الإنسان في كيانه العضوي غذائيا وجنسيا، وتحقيق الرفاه الذي لا يمكن أن يكون تاما ماديا، بل يحتاج إلى رفاه روحي يضفي عليه المعنى وشبه الإطلاق، الذي لا يمكن أن يتحقق في المائدة ولا في السرير.
وحتى نفهم ذلك، لا بد أن نفهم أثرهما في علاقة الجنسين أحدهما بالثاني، سواء كانا من الجنسين المتقابلين أو إذا كانا من الجنس نفسه؛ فمن دون ما تمكن منه العملة وما تمكن منه الكلمة، يستحيل فهم ما يصاحب العلاقة من شروط متانتها. من يتصور علاقة من دون هدايا مادية أو من دون عبارات روحية مصاحبة للهدايا المادية، فهو يتصور المائدة للأكل فحسب والسرير للجماع فحسب.
لكن الأكل والجماع سرعان ما يصبحان حيوانيين ويفقدان فنيهما إذا لم يصحبهما فن المائدة وفن السرير، وأهم ما في الفنين يعود إلى أمور علة فاعليتها أنها من طبيعة التواصل والتبادل دائما، وكلاهما يتعين في دور العملة وفي دور الكلمة وفي دور المكان والزمان والهندام أكثر من الأكل والجماع.
والفنان فن المائدة وفن السرير، يتوجهان إلى الحواس الخمسة وإلى ما يفيده تأثيرهما من سد للحاجات العضوية والروحية في كيان الجنسين، خلال المآكلة والمجامعة وقبلها وبعدها من حيث هي المحددة للمناخ العام الذي تجري فيه المآكلة والمجاعة؛ إعدادا لهما وإطالة لمجريهما واستمتاعا بما يترتب عليهما من سد للحاجات العضوية والروحية، إذا كان ما بين الجنسين تناغم في ذلك كله، تناغم يثبت صدق المشاعر أو ينفيه بما يشعر به أحدهما أو كلاهما من أداء دور وتمثيل، وليس عيشا فعليا صادقا للمآكلة والمجامعة في الإعداد والإطالة ومواصلة عيش ما ترتب عليهما من إشباع للحاجة الغذائية والحاجة الجنسية، بدلالتهما الجمالية والعاطفية وليس مجرد الاستجابة للجوع العضوي في الأكل أو في الجماع.
وعندما تصل الجماعة إلى مرحلة الترف بين الطبقة الثرية، وهي أقلية تبالغ في التعويض بعد فقدان حقيقة الأكل وحقيقة الجنس بسبب فقدان القوتين الذوقيتين الأسمى لفقدان القدرتين على الأكل والجماع، تصل البقية إلى فقدان ما يتجاوز سد الرمق، فتأكل أي شيء وتجامع أي شيء بما في ذلك الحيوان، وحتى الاكتفاء بالعادة السرية والاغتصاب كلما توفرت الفرصة، وحينها تصل فاعلية معدن العجل وخواره أقصى مدى، بحيث يصبح جل الجماعة عبيد الحد الأدنى من سد الرمق الغذائي والجنسي. وهذا يمثل حاليا ما تعاني منه غالبية الشباب العاطل في كل بلاد العرب، وبمقتضى ذلك مليشيات بالقوة لمن يوظفهم لقمع الجميع وإطالة عمر الاستبداد.
الكلمة تصبح رمز سد الحاجات الروحية التي تمثل كل أنواع التعبير بالكيان وبما يعبر عن تبليغ العواطف والأحاسيس، أي كل حاجات فن المائدة وفن السرير وسعادة الإنسان في كيانه العضوي غذائيا وجنسيا، وتحقيق الرفاه الذي لا يمكن أن يكون تاما ماديا، بل يحتاج إلى رفاه روحي يضفي عليه المعنى وشبه الإطلاق الذي لا يمكن أن يتحقق في المائدة ولا في السرير.
لذلك كل شكليات التعويض عند الأثرياء تبقى فاقدة لمعناها الذاتي، ويعوضها التعويض المطلق الذي هو نقيض السياسة، أعني الاستبداد والفساد بحيث يصبح العجز الذاتي يبحث عن تعويض في الطغيان الذي يجعل صاحبه يوهم نفسه بأنه قد تأله بما له من سلطان، قد يعوضه عن فقدان المستوى العضوي والروحي من القدرة على سد الحاجة التي يسدها دور العضو المعني بها أكلا وجماعا.
وكل نقص فيهما لا يمكن أن يعوضه أي فن وأي جزاء بمعدن العجل أو بخواره، مهما بلغت المبالغة في التعويض بمعدن العجل وبخواره؛ فكل مبالغة في أي منهما دليل النقيض وليس دليل حقيقة المشاعر وصدقها؛ فلا معنى للأكل من دون فائدته، ولا معنى للجنس من دون فائدته، فإذا لم تحصل الفائدة يصبح كل الفن المتعلق بهما تعويضا لا يسد الحاجة، وهو حينها لا يعبر عن سد للحاجة الروحية، بل عن تعويض للعجز دون سد الحاجة العضوية.
وفي هذا المضمار، فإن ما ينتظره كلا المتآكلين أو المتجامعين هو ما يسد حاجة الأكل وما يسد حاجة الجنس. وهنا يبرز الفرق الجوهري بين الجنسين؛ لأن هذه الوضعية تختلف تماما بالنسبة إلى الجنسين، فتنعكس العلاقة بين سلطانيهما بحيث يفقد الذكر كل قوته، وتصبح الأنثى هي الأقوى في الأمرين:
1 ـ ففي الغذاء؛ يمكن أن يكفي فيه القدرة المادية عليه بالعملة من الرجل والتفنن في الإعداد من قبل المرأة كاف.
2 ـ وفي الجماع؛ لا يمكن أن تكفي فيه القدرة المادية من قبل الرجل، في حين يكفي لتعويض دور المرأة التفنن فيه.
ما يعني أن مهمة المرأة أيسر من مهمة الرجل في المائدة وفي السرير، وتلك هي علة ضعف الرجل أمام المرأة وقوتها أمامه، رغم المسرحيات التي قد تفيد العكس، والتي غالبا ما يمثلها عنف الرجال ودهاء النساء:
1 ـ فعندما يفقد الرجل المال، فلن تفيده القدرة الجنسية التي يصبح فيها مجرد أجير. وإذا فقد القدرة الجنسية، فلن يفيده المال الذي يصبح فيها مجرد دافع الجزية. ومن ثم فهو من دونهما معا، يفقد ما يجعله يشعر أنه رجل؛ فإذا فقد الأولى، صار يعيش أجيرا بعضوه التناسلي. وإذا فقد الثاني، صار ينفق على من هي لغيره.
2 ـ لكن المرأة لا تحتاج لأن تكون صاحبة مال إذا كانت لها الأنوثة الكافية لأسر الرجل بالمائدة والسرير، وحتى إذا فقدت القدرة الجنسية، فهي تستطيع إخفاءها بالتمثيل بخلاف الرجل؛ لأن التمثيل مستحيل في ما يتعلق بأهم علامات فقدانها؛ أعني الانتشار.
3 ـ وكلما تمكنت المرأة من أدوات سلطة الرجل ضعفت فيه علامات الرجولة، خاصة بعد أن أصبحت المبالغة في التضاد بين السفور وعكسه والمشاركة الدائمة في المجالين العمومي والخصوصي علة في تبريد التجاذب، بسبب الاشتغال الدائم للجاذبية التي تفقد جذوتها، وتصبح العلاقة فجئية بسرعة وجودا وعدما مع تشتتها وتحولها إلى ما يشبه جرب أفلاطون.
4 ـ وهذا الجرب أو التشغيل الدائم، يبرد الحاسة الجنسية، وخاصة عند الرجل لأنه سريع التفاعل بخلاف المرأة التي لها القدرة على إطالة التفاعل. ويمكن أن يحصل مثله إذا صار الإنسان دائم الأكل بالفعل أو بالوهم؛ فيصبح الأكل الحقيقي شبه منعدم؛ لأنه يتحول إلى تَشَهٍّ دائم، وامتناع الشبع مهما تكدست المآكل.
ومن عاش في الغرب، يعلم ذلك جيدا من خلال ملاحظة العلاقات الجنسة والغذائية بين أثرياء الغرب وفقراء المهاجرين، وخاصة من كان منهم ذا كمال بدني وقدرة جنسية ورياضية جذابة. ومن يتجاهل ذلك، فلينظر في علاقة السياحة بتجارة الجنس، وخاصة في جنوب شرق آسيا مثلا.
5 ـ وهذا الأصل القاعدي لكل سلطان يترقى في التنكر إلى أن يصبح إدمانا على السلطان السياسي وحب التأله بلغة ابن خلدون. والسلطان ليس سياسيا بمعنى الاقتصار على الحكم، بل هو يشمل المجالات الخمسة التي صنفنا بها النخب، والتي لكل واحد منها ما لا يتناهى من الفروع من أدنى سلطان إلى أعلى سلطان، بحيث إن أهم علاقات البشر في ما بينهم سلطانية. وتلك هي علة اعتباري نظرية تقديم الإرادة العاقلة على المعرفة العاقلة ثورة خلدونية، أسسها الغزالي في تهافت الفلاسفة وطبقها على السياسة، كما رأينا في الفصل الأول من هذه المحاولة.
وبهذا المعنى، فحرص الرجل على سلطة المال من مكملات رجولته. لكن حرص المرأة عليه لا علاقة له بمكملات أنوثتها بل بالعكس؛ لأن استجمال النوق بعكس استنواق الجمال. وغالبا ما يكون هذا الحرص عندها تعويضا عن فقدان فاعلية الأنوثة وجاذبيتها. وليس بالصدفة أن جل المتشبثات بالجناسة لا تتمعن بجمال يغنيها عن طلب التشبه بالرجال، وهو احتقار المرأة لذاتها لو كن يعلمن.
اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (1)
اقرأ أيضا: النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (2)
النخب وإشكالية مناعة الأمة العضوية وحصانتها الروحية (2)
"اليسار العربي" وفلسطين والوحدة العربية والديمقراطية
"اليسار العربي" والعلاقات مع فرنسا والسوفييت.. مواقف للتاريخ