كتاب عربي 21

شانا توفا إسرائيل

1300x600
(1)
أنا اللي قتلت ألبرت اتراكشي..

هكذا قال العزيز نظمي شاهين، مؤكداً أنه ضغط زناد بندقيته بلا تردد، بعدما سمع من محمود نور الدين، قائد تنظيم ثورة مصر، أن رجل الموساد الدموي كان يتفاخر بأنه عذب الأسرى المصريين في حربي 56 و67، وفقأ أعين بعضهم بتلذذ سادي، ثم أصبح بطلا ودبلوماسيا تتفاخر به سلطة العصابة.

وعلى العكس من التقدير الذي حظي به اتراكشي، عاش نظمي سنوات شبابه في السجن، ولما خرج في العصر الصهيوني ظل محاصرا بالفقر والمرض والعزلة، فالأعداء الذين حاربهم صاروا حكام المنطقة، والتطبيع الذي حمل السلاح ضده صار خيمة الإيواء المرغوبة التي يهرول إليها معظم الحكام العرب. لذلك كلما تذكرت نظمي وهو يقول عبارته بثقة خجلت أن أسأله السؤال التراجيدي المحير: هل أنت متأكد يا نظمي أنك قتلت اتراكشي؟ أم أن اتراكشي هو الذي قتلك وقتلنا وقتل تيار مقاومة التطبيع مع إسرائيل، الذي بدأه سعد حلاوة بأغنية ورصاصة ومطلب صريح قبل أن يدفع دمه ثمناً لحرب خانه فيها رؤساء وأمراء وملوك؟!

(2)
يبدو أن أيلول أسود عند العرب فقط، لأنه عند الصهاينة موسم للتفاح المغموس بالعسل. ففي أيلول/ سبتمبر مات عبد الناصر، ألد أعداء الصهاينة، وبعد ربع قرن شاهدنا وقلوبنا تتحطم مصافحة الفدائي لقاتله على أرض مصرية (طابا)، حيث وقف عرفات يصافح رابين في ذكرى موت عبد الناصر الذي ارتبط بذكريات الدم الفلسطيني في مجزرة أيلول الأسود، وذلك عقب توقيع اتفاقية أوسلو الثانية في 28 أيلول/ سبتمبر 1995. كان المشهد فادحا وواضحا وفاضحا، وجاء ليؤكد الرمزية الغامضة التي كنا نتندر بها فيما بيننا عن لعنات أيلول/ سبتمبر.

فقد كانت واي ريفر الثانية في 4 أيلول/ سبتمبر 1999، وكانت أوسلو الأولى قبلها في 13 أيلول/ سبتمبر 1993، وكان إعلان كامب ديفيد نفسه في 17 أيلول/ سبتمبر 1979، بعد مفارقة زيارة القدس المشؤومة التي تصادف عيد ميلاد عبد الفتاح السيسي (عراب توسيع كامب ديفيد)!

وإذا أضفنا توقيع الإمارات والبحرين على اتفاقية التسليم للصهاينة في منتصف أيلول/ سبتمبر هذا العام، يبدو لنا التاريخ مثيراً لدراما النبوءات والرمزيات الغريبة، خاصة وأن "تنظيم ثورة مصر" الذي سعى لمواجهة التطبيع بالسلاح سقط في قبضة الأمن في التاريخ نفسه، ومات قائده السياسي خالد عبد الناصر في التاريخ نفسه، ومات قائده الميداني محمود نور الدين في التاريخ العجيب نفسه، فأي مصادفات هذه؟!.. أي قوة سحرية تنصر "دولة الميعاد" في نفس الميعاد؟ أي حظ سعيد يهدي المكافآت لـ"أحباب الرب" في منتصف أيلول/ سبتمبر؟!

(3)
مسألة الرمزيات ليست ميتافيزيقا، فالمعلوم أن الولايات المتحدة سعت لإقناع الأطراف الثلاثة (إسرائيل والإمارات والبحرين) بالإسراع في توقيع الاتفاق بحد أقصى منتصف أيلول/ سبتمبر، حتى لا يتأخر إلى ما بعد رأس السنة العبرية، وهو الموعد الذي يتم تحديده حسب مؤشرات قمرية في شهر أيلول/ سبتمبر، لتبدأ الاحتفالات الرسمية عادة يوم 29 أيلول/ سبتمبر من كل عام، وهي احتفالات رمزية يتبادلون فيها التحية بعبارة "شانا توفا"، أي سنة سعيدة، ويتناولون شرائح التفاح بالعسل، ويأكلون سمكة كاملة أو "رأس سمكة"، وهو تقليد يرمز إلى عبارة في صلواتهم نصها: "لنكن الرأس وليس الذيل"، وهو الوعد الذي حققه "اليهودي التائه" بعد مارثوان سياسي خاب فيه العرب خيبتهم الكبرى حتى صاروا ذيولاً رأسها في "إسرائيل".

(4)
يشكو العرب والعالم من سنة 2020 باعتبارها سنة كوارث وأعباء اقتصادية وصحية، لكن الصهاينة يحق لهم أن ينفخوا فرحين مهللين في نفير الصحوة، ويرددون بزهو النصر: "שנה טובה ומתוקה" (سنة حلوة وسعيدة يا إسرائيل)، فالصيد هذه المرة ليس جاسوساً كشريف الفيلالي وطارق عبد الرازق، وليس أديباً كنعيم تكلا وعلي سالم، وليس مثقفاً متحولاً من عينة لطفي الخولي وجماعة كوبنهاجن، لكن الصيد وصل إلى قمة بيوت الحكم بما يمثله ذلك من استسلام مضمون للمستويات الرسمية الأدني في الحكومات ومؤسسات الإعلام التابعة للأنظمة والقطاعات الشعبية، التي تصدّق الحكام أو تتجنب الصدام مع أجهزة البطش الحكومي في الدول الساقطة.

(5)
من جانبي لا أوافق على التهوين مما حدث، باعتبار أن البحرين والإمارات مجرد ممالك صغيرة لا تؤثر في تاريخ ومسارات الصراع الشرق أوسطي، فتأثير الخيانة لا يقاس بقوة الخائن، إذ تكفي ذبابة صغيرة لإفساد تورتة كبيرة، ويكفي ثقب صغير لتعطيل وظيفة برميل كبير، خاصة إذا كانت هذه القوى الخائنة الصغيرة مجرد واجهة لورشة عمل تعمل في الخلفية، بحيث يتم استثمار الخبر المحدود في ترويج فكرة التطبيع "الدولتجي" العربي. إذ يقال أن أربع دول عربية صارت تقيم علاقات رسمية مع إسرائيل وتبرم الاتفاقيات لتطبيع العلاقات ضمن شرق أوسط جديد؛ تتصدر فيه إسرائيل الواجهة كـ"دولة قاعدة" بديلة للدور الذي كانت تقوم به مصر كـ"دولة قاعدة" للمواجهة مع المشروع الصهيوني.

والمؤسف أن هذا الاتجاه المعاكس لمصر وللدول العربية التي قاطعتها لعقد من الزمان بسبب نكوصها في الصراع وتطبيعها مع اسرائيل؛ لن يتوقف عند هذا الحد من الاستسلام، فالتصريحات الأمريكية والإسرائيلية تتحدث عن ست دول في الطريق. وإذا نظرنا إلى الخريطة العربية واستثنينا الدول المدمرة مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن، فإن الجزائر تبدو الأبعد عن التطبيع ومعها موريتانيا وربما الصومال إلى حين، وهذا يعني أن بقية الدول مرشحة للانضمام المحتمل إلى الشرق الأوسط الصهيوني الجديد، ما يعني انتهاء المشروع القومي نهائيا، خاصة وأن موقف جامعة الدول العربية المخزي يكشف عن موت هذه المنظمة التي لم يعد لها تأثير إيجابي يذكر على ساحة العمل السياسي العربي.

وكذلك يبدو المشروع الإسلامي بكل نماذجه أمام سؤال مصيري تخفق كل التنظيمات في تقديم استجابة ملائمة لهذا التحدي، وهذا ما يفسح المجال للمشروع الإيراني على حساب النموذج السني الذي كانت تتصدره السعودية رسمياً، وجماعة الإخوان المسلمين شعبياً، وتنظيمات العنف مثل القاعدة وأخواتها على الصعيد المسلح. فالكل أخفقوا في معركة المواجهة مع المشروع الصهيوني، بينما تحتفظ إيران وأذرعها الشرق أوسطية بخطاب مقاوم يضعها كطرف وحيد في المواجهة التي تشتاق إليها الأفئدة قبل العقول في المحيط العربي والإسلامي.

(6)
هذا الانهيار الرسمي لبيوت الحكم العربية لا يعني هزيمة نهائية للمنطقة، لكنه ككل التحديات يضعنا أمام مسارات متباينة؛ أحدها انفجار النظام العربي من داخله بعد تخليه عن كل الالتزامات التي أكسبته الشرعية منذ تقسيمة سايكس بيكو وحتى التبعية المغطاة.

ولا أعتقد أن النظام قادر على الاستمرار بعد إعلانه التبعية المكشوفة للمشاريع التي ظل الإعلام الرسمي يقدمها لشعوبه باعتبارها "مشاريع معادية". ولا أعتقد أن حيلة استبدال إسرائيل بإيران ستنجح عند الشعوب العربية، فإذا كان هذا المبرر مقبولا بنسبة في الإمارات والبحرين وعُمان ولبنان، فإنه مبرر هزلي غير مقنع إذا تم استخدامه في السودان أو المغرب وغيرهما من الدول التي لا تشكو من تدخلات أو تحرشات إيرانية.

(7)
في تقديري أن الهزيمة المذلة التي يعيشها العرب، مجرد هزيمة مؤقتة مرتبطة بالمستوى الرسمي، لأن المكونات الراسخة في الشخصية القومية لشعوب المنطقة تتعارض مع المشروع الصهيوني، كما تتعارض مع المشروع الإيراني إذا تطرف وخرج من حدود المذهبية الدينية المقبولة إلى التوسع السياسي والنزوع إلى الهيمنة.

لكن سؤال الزمن يحتاج لبلورة تنظيمات وحركات شعبية تعوض خيانة النظام العربي، وتكتسب خبرة البديل الصالح للحكم. وهذه الخطوة هي بداية الاستجابة العملية لتحدي المسار الرسمي العربي الذي يسعى لمقايضة التاريخ والوجدان بمكاسب السوق التي قد تخضع المتعبين من الناس لبعض الوقت. لكن هذا الخداع لن يطول، وحين تأتي نوبة الصحيان سيكون سؤال الاستعداد والجاهزية هو السؤال الأهم الذي يساعد على استبدال أو بقاء النظام العربي الخائن.

وحتى لا أروج لأفكار تخديرية أو اتكالية، أوضح أن ردود الفعل الشعبية لا زالت أقل من المستوى المطلوب للتأثير والتعديل. فالأدوات محتكرة، والوعي مشتت، والمصالح تطمس المبادئ وتطمر العقائد، والتنظيمات منكفئة على قضايا صغيرة تركز على الصراعات الداخلية أو خطاب الهجاء للسلطات القائمة دون فعل حركي وتنظيمي. وهذا المسار يحد من شعبية العمل السياسي والجماهيري عموما، لذلك تجب استعادة المثقفين والفنانين وأعضاء النقابات المهنية ونشطاء الطلاب والعمال والفلاحين، وتنظيمهم في تيارات تركز على المواجهة الحضارية لمشروعات التبعية وتدجين المنطقة تحت إمرة إسرائيل.

وليكن هذا الطرح مجرد استثارة لمقترحات أكفأ، وعصف ذهني عربي جماعي يعفينا من تجربة السبي الصهيوني لشعوب المنطقة.

(8)
اللهم إني بريء من التطبيع والمطبعين أيا كانت الأسباب والأرباح..

tamahi@hotmail.com