تقارير

اعتمر كوفيتك واتبعني.. من تراث المقاومة الشعبية الفلسطينية

الكاتب الفلسطيني الدكتور منتصر الحمد: هذا هو تاريخ الكوفية التي أمست رمزا للفلسطينيين- (عربي21)

"الكوفية بخمسة قروش... والنذل لابس طربوش" و"حطة وعقال بسبعة قروش... وعرص الليّ بيلبس طربوش"؛ بهذه الهتافات صدحت حناجر الفلسطينيين لتجميع الصف وللتجييش ضد المحتل البريطاني.

الحطّة والتاريخ الفلسطيني السياسي

لقد ارتبطت الحطّة بالتاريخ الفلسطيني السياسي المعاصر، ففي الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939م اعتمر الثوار الفلسطينيون العقال الأسود فوق حطّة صيفية بيضاء أو شتوية سكّرية أو سوداء.

 



فغدت الحطّة عنوان مقاومة المحتل البريطاني، حتى بدأ الجيش البريطاني يطارد من يعتمر هذا الزيّ ظنًّا منه أنه من الثوار، ولهذا نهج الاحتلال البريطاني مع بدايات ثورة 1936م عددًا من السياسات للتفرقة بين الفلسطينيين سعيًا لشق الصف بين أهل القرى والمدن، فنكّلت وضيّقت على من اعتمر الكوفية وخفّفت على من اعتمر الطربوش أو حسر رأسه.

فأخذ العديد من الرجال يعتمرونها فخرًا بالثوار ولتخفيف الضغط عليهم كي لا يميّز الجيش البريطاني الثوارَ عن غيرهم. حتى أضحى التخلي عن الطربوش واعتمار الحطة والعقال من الرموز الوطنية. وصدرت بذلك بيانات ودعوات من شيوخ وقادة نواح وقرى للالتزام بذلك كما وزعت مناشير وألصقت إعلانات في شوارع المدن الفلسطينية تحثّ الناس على الالتزام.

وفي يوم 28 آب (أغسطس) 1938م أعلنت الصحف الفلسطينية بالتعميم على الجماهير باعتماد الكوفية وخلع الطربوش بشكل نهائي، كما ذكرت جريدة الصراط الفلسطينية الصادرة في ذلك اليوم.

الكوفية (الحطة البيضاء والسوداء)

 

 

 
وانتقلت الرمزية سريعًا للكوفية التي ارتبطت بقيام الثورة الفلسطينية على المحتل الصهيوني، وقيل إنها عراقية الأصل من مدينة الكوفة وإليها تنسب، وقد وصلت شحنة كبيرة منها معونة شتوية من العراق للفدائيين الفلسطينيين في غور الأردن إبان إغاراتهم على قوات الاحتلال ما بين عامي 1967 و1970م. ثم ما لبثت أن أصبحت رمزًا للثوار وتأييدًا للقضية الفلسطينية. 


الكوفية والترميز العالميّ 

 


وقد شكّل اعتلاء القائد الفلسطيني ياسر عرفات منصة الأمم المتحدة لإلقاء خطابه الشهير في الجمعية العمومية في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974م علامة فارقة في انطلاق الرمزية السيميائية العالمية للكوفيّة رمزًا للمقاومة الفلسطينية. وهو الذي شفع هذه الرمزية بعدد كبير من الرسائل التحررية ختمها بقوله: "الحرب تندلع من فلسطين والسلام يبدأ من فلسطين".

ثم ما فتئ عرفات يعتمرها بقية حياته، حتى ارتبطت باسمه ودخلت عددًا من اللغات العالمية تحت لفظ "ARAFATKA" ونظيراتها في لغات أخرى. 

 



وحملها بفخر كل من أيّد حقوق الشعوب الثائرة الباحثة عن التحرّر من الظلم والطغيان والاحتلال، وخاصة رمزيتها في تأييد الحق الفلسطيني. ولبسها العديد من الناس غير الفلسطينيين للدلالة على تأييد حق الحرية للشعب الفلسطيني وتضامنا معه، ولعلّ أوضحها في رمزيّته ما قام به مندوب بوليفيا إذ اعتمر الكوفية خلال كلمة له في مجلس الأمن الدولي ليعبّر عن احتجاج بلاده على سياسة الاستيطان الإسرائيلي.
 
الكوفية: المقاومة الشعبية
 
اخترقت الكوفية الفلسطينية الذاكرة العالمية إبّان الانتفاضة الأولى عام 1989م (المعروفة بانتفاضة أطفال الحجارة) وكذلك في الانتفاضة الثانية عام 2000م (المعروفة بانتفاضة الأقصى)، وفي كل المناوشات والتظاهرات في ربوع الوطن الفلسطيني.

 


فقد أخذ الشباب يتلثّمون بالكوفية لإخفاء هويتهم أثناء رمي الحجارة على الجنود الإسرائيليين، وإعلانًا عن هويتهم الوطنية وارتباطهم بمفهوم التحرير، ووقاية لهم من الغازات المختلفة التي يحاربهم بها جنود الاحتلال.

الكوفية في الحياة وبعد الممات

ولا ينفكّ الفلسطيني يناضل حتى بعد استشهاده، فيزدان جسد الشهيد بعلم فلسطين يحتضنه، ويلفّ الرأس بالكوفية فيما يكشف الوجه فخرًا بتضحية الشهيد وإغاظة للعدو.

وفي أجواء احتفالية يؤمّها كل أهل البلد لا يتخلّف منهم أحد، تملأ الزغاريد جنبات المكان، وتخفق أعلام فلسطين في الجنازة، وقد ترفع راية الفصيل الذي ينتمي إليه الشهيد. ويتنافس الجميع على شرف حمل الجثمان أثناء التشييع طلبا للأجر وشعورًا بالواجب الوطني تجاه الشهيد. 

 



وفي أجواء شهادة الثائر للدفاع عن حقّه رسالة حياة لكل الشرفاء في العالم أنّ "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" في أرض زهت بوعد النبوة أن فيها رجالاً أشداء "لا يضرّهم من خذلهم وهم يد على من سواهم... في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس".
 
وتبقى الكوفية عنوان كرامة تنادي من على رؤوس شامخة تعتمرها في طريق تحرير الأرض والإنسان.