قضايا وآراء

عصام العريان.. المعادلة المستحيلة

1300x600

تمثل وفاة القيادي الوطني والإسلامي عصام العريان يوم الأربعاء الماضي؛ خسارة كبيرة، ليس للحزب الذي كان نائبا لرئيسه (الحرية والعدالة) وليس للجماعة التي كان عضوا بمكتب إرشادها (الإخوان المسلمين) فقط، بل خسارة لمصر وللأمتين العربية والإسلامية وعموم البشرية. فأمثال عصام العريان من الذين يبنون جسورا بين الحضارات والثقافات والتيارات والكيانات هم قليل، ولذلك فإنه حين يرحل أحدهم فإن رحيله يمثل خسارة لا يعوضها إلا ظهور بديل له.


كان عصام العريان يمثل المعادلة المستحيلة في الكثير من الأمور، حيث بدا جامعا بين ما يعتبره البعض متناقضات، فهو السياسي المحنك المقبل على الحياة، وهو في الوقت نفسه الزاهد المتبتل الشارح لحكم ابن عطاء الله السكندري، وهو الزعيم الطلابي (رئيسا لاتحاد كليته وجامعته) والناشط النقابي (الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء)، وفي الوقت نفسه الداعية المحبوب الذي تشد إليه الرحال من أقاصي البلاد لسماع خطبه ومواعظه.. هو المبدع والمحلق في فضاء العمل العام، وهو في الوقت نفسه المنضبط تنظيميا داخل جماعته.. هو الكاتب في الشئون العامة في الصحف المصرية والعربية، وهو المتابع لعمله في معمل التحاليل الطبية.. هو الغارق في قضايا الوطن وهمومه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنقابية والمهنية.. الخ، وهو في الوقت نفسه المهموم بقضايا أمته العربية والإسلامية بل وعموم الإنسانية.

كان للعريان مع نفر من إخوانه الذين نشطوا في العمل العام مذ كانوا طلابا في الجامعة؛ دور في تأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية، ومن بعدها شاركوا في الانتخابات الطلابية وترأسوا تلك الاتحادات، ومنهم عصام شخصيا، ثم أكملوا مسيرتهم العامة في العمل النقابي بعد تخرجهم.

كان لهم دور كبير في إحياء جماعة الإخوان وسرعة انتشارها منذ أواخر السبعينيات، حينما حدثت المفاصلة في الجامعات المصرية، فانضمت معظم الجماعات الإسلامية فيها لجماعة الإخوان.

كان عصام العريان في ذلك الوقت قائدا طلابيا يشار إليه بالبنان، وتشد لخطبه الرحال، وأذكر أننا حين كنا طلابا في المرحلة الثانوية والجامعية كان الكثيرون منا (نحن أبناء الأقاليم) يسافرون إلى القاهرة خصيصا للاستماع لخطب عصام العريان، كما أن الإعلان عن زيارته أو ندواته في بعض المحافظات كان يجذب له أعدادا غفيرة.

كانت النقابات المهنية المصرية تعيش حالة موات، ورتابة في عملها حتى منتصف الثمانينيات؛ حين دخلتها الدماء الجديدة، مثل عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح وأبو العلا ماضي ومحمد علي بشر وحلمي الجزار، وآخرين، حيث أصبحت هذه النقابات مثل خلايا النحل التي تعمل طيلة الوقت، تجتهد في تقديم خدمات جديدة لأعضائها وفي الوقت نفسه تشتبك مع القضايا الوطنية العامة، فتعقد لها الندوات والمؤتمرات والورش والزيارات، وتقدم النصائح والتوصيات، وتشتبك مع قضايا أمتها في فلسطين وغيرها من مناطق النزاعات.. الخ.

ووصل الحال بهذه النقابات إلى أنها أصبحت أسرع من الدولة في بعض الأحيان، كما حدث في زلزال 1992، وكما حدث في انهيار صخرة المقطم حيث وصلت المعونات الإغاثية منها  للمتضررين قبل أن تصل المساعدات الحكومية، وهو ما أحرج نظام مبارك فأصدر أمرا عسكريا بمنع جمع التبرعات إلا من خلال جمعية الهلال الأحمر المصري التي يديرها رجال الدولة، حتى يحرم النقابات من هذا العمل.

في العام 1992 أبعدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مئات الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة إلى منطقة مرج الزهور على الحدود اللبنانية، وتوافدت عليهم وفود الدعم والمساندة من مصر، وكان العريان في طليعة تلك الوفود. بعدها سافر إلى سراييفوا لمتابعة جهود الإغاثة الإنسانية لمسلميها الذين تعرضوا لحرب إبادة في الفترة ذاتها (1992-1995). كما سافر إلى مناطق أخرى في آسيا وأفريقيا لتقديم الإغاثة الإنسانية.

وعلى المستوى السياسي، شارك عصام العريان في تأسيس المؤتمر القومي الإسلامي الذي يضم مفكرين وقادة رأي من التيارين القومي والإسلامي بهدف التواصل والحوار بين التيارين وتعظيم المساحات المشتركة، وتولى موقع الأمين العام للمؤتمر في إحدى دوراته، كما كان عضوا في المؤتمر القومي العربي. وقد نعاه المؤتمر عقب وفاته كما أدان من قبل اعتقاله.

وعلى المستوى الحقوقي، انضم العريان مبكرا إلى المنظمة المصرية لحقوق الانسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان.

من المعادلات الصعبة أن يصبح العريان أصغر نائب في البرلمان عام 1987، وفي الوقت نفسه يصبح أحد نجوم البرلمان في وقت سريع، مقارعا رئيس البرلمان الضليع بالسياسة والقوانين (الدكتور فتحي سرور، أستاذ القانون) الحجة بالحجة. كيف لا وهو الدارس للطب والقانون والتاريخ والشريعة، حتى وصفه أحد أصدقائه مازحا بأنه من هواة جمع الشهادات.

كان للعريان دور كبير في تطوير الأداء السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وقد ترأس لجنتها السياسية حينا من الدهر، كما أنه دفع مبكرا لتأسيس حزب للجماعة في عهد المرشد الراحل عمر التلمساني، فكانت التجارب الأولى التي لم تر النور وصولا إلى حزب الحرية والعدالة الذي اختير نائبا لرئيسه عقب ولادة الحزب.

كما كان جسرا للتواصل مع الأحزاب والقوى السياسية في عهد مبارك، ونجح في التقريب بين الجماعة وتلك القوى، وتأسيس إطار للتعاون المشترك من خلال لجنة التنسيق بين الأحزاب والقوى السياسية. كما شارك في تأسيس حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير.

وكان هو من أعلن رسميا عن مشاركة الإخوان بشكل رمزي من خلال النواب والنشطاء في مظاهرات يوم 25 كانون الثاني/ يناير، ثم الإعلان عن النزول الكثيف للإخوان يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2011، وقد دفع الثمن سريعا بالقبض عليه ضمن عدد آخر من قادة الإخوان وكوادرهم، يوم 27 كانون الثاني/ يناير.

وحين انتصرت الثورة وتم تحريرهم من السجون، حرص العريان على أن يعود من السجن إلى الميدان مباشرة بملابس الحبس، وظل حريصا على بناء توافق وطني بعد ثورة يناير من خلال موقعه كنائب لرئيس حزب الحرية والعدالة. وأسفرت جهوده عن تشكيل التحالف الوطني الديمقراطي الذي ضم 11 حزبا، وحصل على الأغلبية البرلمانية في أول انتخابات حرة شهدتها مصر، لكن حالة الاستقطاب السياسي الواسعة حالت دون تحقيق المزيد من التوافق.

من الإجحاف أن نحصر عصام العريان في حزب أو جماعة أو حتى تيار كامل، مثل التيار الإسلامي الذي يعد الراحل أبرز وجوهه مصريا وعربيا وعالميا، ولكنه كان رمزا وطنيا وعروبيا وإسلاميا وإنسانيا، قدم لنا نموذجا يصعب تكراره.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه في عليين.

twitter.com/kotbelaraby