بعد استقالة رئيس حكومة "الرئيس" الأولى (أي تلك الحكومة التي اختار الرئيس
التونسي أن يكلف إلياس الفخفاخ بتشكيلها رغم انتمائه إلى حزب لا وجود له في
البرلمان، ورغم حصوله على أقل من واحد في المئة من أصوات التونسيين في الانتخابات الرئاسية)، وبعد عودة حق المبادرة دستوريا إلى رئيس الجمهورية، كان أمام هذا الأخير خياران أساسيان: إما أن يختار مرشحا قادرا على ضمان حزام حزبي كاف لتزكية الحكومة أمام البرلمان (وهو ما يتوفر في مرشح النهضة وقلب تونس وبعض حلفائهما)، وإما أن يختار مرة ثانية شخصية تكون هي الشخصية "الأقدر" حسب الرئيس، حتى إن لم تكن متمتعة بحزام حزبي كبير كما هو شأن رئيس الوزراء المستقيل إلياس الفخفاخ.
ولكن الرئيس فاجأ الجميع وأعرض عن كل مرشحي
الأحزاب، بمن فيهم مرشحو حلفائه الأوثق في الكتلة
الديمقراطية، واختار شخصية من خارج قوائم الترشيحات ألا وهي وزير الداخلية في الحكومة المستقيلة هشام المشيشي.
رغم أن الدستور التونسي لا يُلزم رئيس الجمهورية بأن يختار الشخصية "الأقدر" من بين ترشيحات الأحزاب والكتل البرلمانية، فإن اختيار الرئيس لشخصية غير مدعومة حزبيا، يعمّق
قطيعته مع المنتظم السياسي. إذ يعلم المطلعون على الكواليس أن الشخصية التي اختارها كانت تدين بوجودها على رأس وزارة الداخلية لرئيس الدولة، وستكون مدينة بتكليفها بترؤس الحكومة لقيس سعيّد قبل غيره من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
ولا شك في أن الرئيس بهذا الاختيار يكون قد أثبت جديته في طرح نفسه بديلا للمنظومة الحزبية لا شريكا لها، كما أثبت رغبته في التعديل الواقعي للقانون المنظم للسلطات تمهيدا لتعديله عبر مبادرة تشريعية أو بعملية استفتاء عام، يقصد المرور إلى النظام الرئاسي وضرب توسط الأحزاب في التعبير عن "إرادة الشعب"، عبر ما يسمى بالديمقراطية القاعدية أو التشاركية التي ستجبّ الديمقراطية التمثيلية.
حكومة الكفاءات: نحو إلغاء دور الأحزاب في الحكم
لم يُخف الرئيس التونسي يوما أنه لا يطرح نفسه شريكا للفاعلين السياسيين، ولم يتردد منذ بداية ظهوره الإعلامي "خبيرا دستوريا" في بيان ضيقه بالمنظومة الحزبية وبنظام الحكم وما أفرزه من سلطة ومعارضة. وقد عبّر عن هذا الرأي صراحة في أكثر من مناسبة؛ لعل أشهرها ما صرّح به بعد موت المرحوم محمد براهمي من ضرورة أن يرحل السياسيون "جميعا" لأنهم خانوا الثورة والإرادة الشعبية وحرفوا الصراع السياسي عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدارات هوياتية بائسة.
وعند المقاربة السطحية قد يبدو أن موقف الرئيس من الأحزاب (بعد وصوله إلى قرطاج) قد انحصر في علاقة صدامية مع
حركة النهضة، ولكن هذه المقاربة سرعان ما تكشف محدوديتها التفسيرية عندما نتذكر أن مهاجمة النهضة باعتبارها الحزب الأقوى والأكثر تمثيلية وامتدادا شعبيا؛ هي خطوة ضرورية لإضعاف المنظومة الحزبية كلها. كما تنقص جاذبيةُ تلك المقاربة عندما نستحضر موقف رئيس الجمهورية من ترشيحات حلفائه في الكتلة الديمقراطية لرئاسة الحكومة، بعد استقالة إلياس الفخفاخ.
لقد كان من الواضح أن سقوط حكومة الفخفاخ لم يكن يعني للرئيس فرصة للقيام بمراجعات سياسية في مستوى علاقته بالأحزاب، ولذلك فإنه اعتبر عودة حق المبادرة إليه مناسبة لترسيخ هيمنته على رئاسة الحكومة. فإذا كانت حكومة إلياس الفخفاخ هي حكومة الرئيس السياسية (أي المرتبطة بالأحزاب)، فإن التوجه العام لمفاوضات تشكيل حكومة هشام المشيشي (إلى حد هذا اليوم) يُظهر أنها ستكون حكومة الرئيس "التكنوقراطية" الخالية من الأحزاب، بما فيها الأحزاب المتحالفة مع الرئيس.
ورغم وجود شبه إجماع داخل الأحزاب على رفض إقصائها من التركيبة الوزارية المنتظرة، فإن رئيس الوزراء المكلف يبدو مصرّا (باتفاق لا يخفى مع رئيس الدولة) على تشكيل حكومة "كفاءات"، وتطعيمها في الحد الأقصى ببعض مرشحي الأحزاب من غير المنتمين إلى صفوفها القيادية الأولى.
مفاوضات تشكيل الحكومة: سؤال الشرعية والمشروعية
قد يكون من المغالطة أن ننكر على رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي وجود أزمة حزبية كبيرة في تونس، ولكن من المغالطة أيضا أن ننتظر من هذا المكلف أن يسعى إلى إيجاد حل لتلك الأزمة. فالإرادة الرئاسية التي كلفته بتشكيل الحكومة لا تبدو مشغولة بلعب دور الوساطة بين الأحزاب؛ بقدر عملها على توظيف الأزمة البرلمانية لترذيل الأحزاب وتهيئة المناخ العام للقبول بتغيير النظام السياسي كله. ولذلك فإن حديث المشيشي عن وجود أزمة حزبية غير قابلة للتجاوز هو من باب تبرير خيارات محسومة قبل عملية التفاوض ذاتها.
فالرئيس الذي اختار "وزيره الأول المكلف" (فالمشيشي بحكم التوازنات السياسية لن يكون رئيسا للوزراء إلا صوريا وسيكون وزيرا أول خاضعا للقصر الرئاسي)، سيناقض نفسه إذا أوعز إلى المشيشي بتشكيل حكومة سياسية. فلو كان الرئيس يريد تلك الحكومة لاختار شخصية مسنودة بحزام حزبي مريح، ولكنه يريد حكومة لا تحتاج إلى الأحزاب إلا للتزكية الاضطرارية، بحكم خوف الجميع من
انتخابات برلمانية مبكرة يتحكم رئيس الجمهورية في موعد الدعوة إليها، وتعطيه بحكم غياب المحكمة الدستورية فرصة العمل بالمراسيم كيفما شاء ودون أية سلطة رقابية.
مهما كانت اعتراضات التونسيين على أداء الأحزاب، سواء أكانت في الحكومة أم في المعارضة، فإن إقصاء تلك الأحزاب من إدارة الشأن العام يطرح جملة من الأسئلة المتعلقة
بحكومة "الكفاءات". فالرئيس سعيد الذي كثيرا ما هاجم شرعية الأحزاب بحكم غياب أية مشروعية لها ترتبط بالإنجاز، يعلم جيدا أن حكومة "الكفاءات" السابقة لا تتمتع بأية مشروعية، ولا يمكن أن تكون حجة بالغة في الدفاع عن خياره.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرئيس
قيس سعيد نفسه كان قد اعتبر حكومة الكفاءات أو التكنوقراط التي ترأسها مهدي جمعة بعد إسقاط الترويكا "كذبة كبيرة". فكيف يمكن له (ولرئيس الحكومة المكلف) أن يدافعا الآن عن تلك الكذبة الكبرى؟ هل اكتسب الكفاءات وطنية مضافة أم تغيرت ولاءاتهم الأصلية؟ ما هو المحصول الواقعي (أي ركائز المشروعية) لحكومة التكنوقراط السابقة، بل لكل الكفاءات الذين استعانت بهم الحكومات السياسية المتعاقبة؟ هل رئيس الحكومة المكلف نفسه "كفاءة" يستطيع إدارة البلاد في مرحلة حرجة من تاريخها؟ ما هو معيار الكفاءة في دولة لم يكن لكفاءاتها من دور إلا إعادة إنتاج شروط التخلف والتبعية، وإدارة البلد وفق إملاءات الجهات المانحة/ الناهبة ووكلائها المحليين؟ كيف نضمن حيادية "الكفاءات" واستقلاليتهم عن الأحزاب وباقي الفاعلين الجماعيين؛ والحال أن التجارب السابقة أثبتت أنهم مجرد طوابير خامسة لجهات حزبية أو مالية داخلية وأجنبية، كما أثبتت تلك التجارب أيضا أن العمل الحكومي لم يكن إلا خطوة للانتظام الحزبي، خاصة
داخل أحزاب المنظومة القديمة؟
حكومة الرئيس أم حكومة المنظومة القديمة؟
إنها أسئلة لا يبدو أنها تشغل الرئيس سعيد ولا رئيس الحكومة المكلف. ولا شك في أن الإعلام الخاضع لورثة المنظومة القديمة وحلفائهم سيكون أكبر حليف لهما، ولن يحرجهما بأسئلة تظهر مدى هشاشة الدفاع عن حكومة الكفاءات. فكل ما يعني الإعلام وأغلب "الشركاء الاجتماعيين" (مثل اتحاد الشغل واتحاد الأعراف) هو مركزة السلطة بين يدي رئيس جمهورية لم يُظهر إلى الآن أية عداوة حقيقية للمنظومة القديمة وأذرعها الحزبية والنقابية والإعلامية، بل لم يظهر أية عداوة لحماتها في فرنسا التي اعتبر احتلالها لتونس (متماهيا مع السردية الاستعمارية) مجرد حماية.
وقد يكون من المبالغة أن نقول إن حكومة الكفاءات التي يباركها اتحاد الأعراف واتحاد العمال وحزب الفاشية (الحزب الدستوري الحر) في الآن نفسه، بالإضافة إلى
إعلام "محور الشر"، هي حكومة المنظومة القديمة، ولكننا لن نجانب الصواب كثيرا إذا قلنا إنها لن تكون حكومة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المطلوب.
ومهما كانت غايات الرئيس من وراء دعم هذا التوجه (تهرئة المنظومة الحزبية وتهيئة الرأي العام لمبادراته التشريعية المنتظرة)، فإنه يتقاطع موضوعيا مع كل أولئك الرافضين للنظام البرلماني المعدّل، بل مع كل أولئك الراغبين في مركزة السلطة داخل القصر الرئاسي بين يديه تمهيدا لإرجاعها لأحد "الملاّكة" (أي إلى أحد ممثلي المنظومة السلطوية القديمة) على حسب العبارة الشهيرة للرئيس السابق المرحوم الباجي قائد السبسي.
twitter.com/adel_arabi21