كتب

قراءة لتاريخ مصر تبرئ الفلاح من الخنوع للسلطة الغاشمة (2من2)

عندما حاول الفاطميون إجبار المصريين على "التشيع" بالمعنى المذهبي الكامل رفض المصريون ذلك- (الأناضول)

الكتاب: "الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر"
المؤلف: د. طاهر عبد الحكيم
الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة، 2020

تواصل الكاتبة والإعلامية المصرية رباب يحيى في الجزء الثاني والأخير من قراءتها لكتاب "الشخصية الوطنية المصرية.. قراءة جديدة لتاريخ مصر"، للمؤلف الدكتور الطاهر عبد الحكيم، استعراض العلاقة التي حكمت المواطن وتحديدا الفلاح المصري بالسلطة المركزية عبر العصور. وتتناول يحيى مختلف العوامل التي تحكم هذه العلاقة، لا سيما المتصلة بعلاقة الدين والجيش بالسياسة..

الفتح الإسلامي لمصر

بدءاً من الفتح العربي الإسلامي لمصر (640م) يمر حوالي الألف عام لا تتبلور خلالها أية قيادة قومية مصرية باستثناء قيادات الانتفاضات والتمردات الفلاحية التي بقيت كأهم مظهر من مظاهر استمرارية الشخصية الوطنية المصرية، إلى أن ظهرت فئة العلماء كقيادة وطنية في النصف الثاني من القرن السابع عشر.

خلال ما يقرب من السبعة قرون الأولى من تلك الفترة، كانت الغالبية العظمى من المصريين قد تحولت من المسيحية إلى الإسلام، واضمحلت اللغة القبطية لتحل محلها اللغة العربية، وطوال هذه الفترة توالت على مصر دول عديدة لم يكن فيها دولة واحدة مصرية، فمن الأمويين إلى العباسيين إلى الطولونيين والإخشيديين إلى الفاطميين فالأيوبيين فالمماليك فالعثمانيين، فالمماليك تحت ولاة عثمانيين إلى أسرة محمد علي الألبانية الأصل، بعض هذه الدول استقل بمصر، وبعضها شهد ازدهاراً في التجارة والحرف والزراعة، وبعضها جلبت سياساته خراباً ودمارا اقتصاديين وأوبئة ومجاعات، بعضها كانت له أمجاد عسكرية في صد غارات الصليبيين والمغول، وبعضها جعل من القاهرة عاصمة لإمبراطورية واسعة، وبعضها انحط بمصر إلى مستوى الولاية التابعة.

 

يرصد المؤلف أن تاريخ مصر الحديث (1879 حتى 1952) هو حلقات متتابعة لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بدءاً بالثورة العرابية، ومروراً بالنضال الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم ثورة 1919، وانتفاضة 1935، وانتفاضات 1946 و1950، ثم ثورة يوليو 1952.

 



فترة الولاة الأمويين (658- 750)، شهدت ثورات فلاحية شاملة كادت إحداها تقضي على جيش عبدالملك بن مروان، وفي ما بين عامي 813 و833، كانت مصر، أثناء هذه الفترة، تحت حكم العباسيين، قامت ثورات فلاحية عديدة، واضطر الخليفة المأمون أن يحضر بنفسه إلى مصر للإشراف على إخماد واحدة من أخطر تلك الثورات، إذ إنها استمرت وحدها ثمانية أشهر.

وعندما حاول الخلفاء الفاطميون إجبار المصريين على "التشيع"، بالمعنى المذهبي الكامل رفض المصريون ذلك، فقد أصدر الحاكم بأمر الله (996- 1021) مرسوماً يقضي بسب أبي بكر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة الذين وقفوا موقفاً يتعارض مع ما تعتقده الشيعة بشأن وصية النبي محمد لعلي بن أبي طالب، وأمر الحاكم بأمر الله أن يتم ذلك في المساجد والمقابر والحوانيت جهراً، لكن هذا المرسوم أثار المصريين وحدثت اضطرابات وتظاهر المصريون وحاصروا قصر الحاكم بأمر الله ما اضطره أن ينزل عند إرادة المصريين ويصدر مرسوماً آخر عام 398 هـ (1007م) يلغي فيه المرسوم السابق ويطلب على العكس من الناس أن يترحموا على الصحابة، وأهم من ذلك كله أن هذا المرسوم الجديد جاء مطبوعاً بالطابع المصري إذ نص على أن لكل مسلم أن يجتهد في الدين كما يشاء، وأنه ليس من حق أي مسلم أن يتعالى على مسلم آخر بسبب اختلاف المذهب أو أن يعترض مسلم على ما يعتقده مسلم آخر.

هكذا، فرض المصريون موقفهم الخاص من الدين باعتباره مسألة شخصية تتعلق بضمير الإنسان الفرد، وأنه لا يجب استخدام الدين لأغراض سياسية أو في خصومات مذهبية. 

 

مصر في عهد حكم محمد علي

ثم، يستعرض الكاتب، حتى حكم محمد علي و إلى نهاية حكم إسماعيل (1805- 1879)، حوالي خمس عشرة ثورة، أو تمرداً، قام بها الفلاحون، بسبب نظام الاحتكار الذي انتهجه محمد علي في الصناعة والزراعة والتجارة، حتى أنه في عام 1821، أصدر أمراً ينص على "منع كافة الأهالي من تشغيل أنوال الغزل والدوبارة"، ويهدد بمعاقبة الذين "يتجاسرون" على تشغيل تلك الأنوال ومعاقبة المأمورين الذين يتكاسلون عن منعهم، ومنع الفلاحين من صناعة الحصر لحسابهم الخاص، وأغلق مصانع السكر الأهلية عندما بدأت المصانع الحكومية التي أنشأها هو في إنتاج السكر، واستولى على جميع مصانع الزيوت عام 1833، وجمع كل عمال الدخان والنشوق من جميع أنحاء مصر وأجبرهم على العمل لحسابه في خان واحد تحت إشراف وال من ولاته، وأصدر عقوبات وغرامات على أي شخص يصنع أو يبيع دخاناً أو نشوقاً خارج هذا الخان حتى لو كان لاستهلاكه الشخصي.
 
ويكاد عهد محمد علي كله يكون عهد قلاقل وتمردات وانتفاضات فلاحية مسلحة في كل أنحاء مصر، ففي عام 1820-1821 قاد رجل اسمه الشيخ أحمد ويسمى نفسه (الصلاح) ثورة فلاحية في محافظة قنا وجمع حوله 40 ألف مقاتل واستولى على تلك المنطقة، وكان يعين الحكام على المدن والأقاليم من أتباعه، وفرض الضرائب "لحكومته" واستمرت ثورته شهرين إلى أن تمكنت قوات محمد علي من سحق الثورة. 

وبعد ذلك بعام واحد قامت ثورة أخرى كان مركزها قرية البعيرات قرب الأقصر بقيادة رجل يسمى أيضاً الشيخ أحمد، وأطلق عليه الفلاحون اسم "المهدي"، وقد نجح في تعبئة آلاف الفلاحين حوله، وفي السيطرة على المنطقة وطرد موظفي الحكومة منها واستولى على مخازنها وأقام نوعاً من النظام المستقل وأعلن أن هدفه هو إسقاط نظام محمد علي، واضطر محمد علي إلى سحب بعض قواته من السودان وأطبق بقواته على الثوار من الشمال والجنوب فسحق ثورتهم وأحرق قرية البعيرات وعدداً آخر من القرى، وذبح مئات الفلاحين، وكان رد الفعل مزيداً من التمرد في مواقع أخرى، وعاد الفلاحون الهاربون ومن تبقى من الثوار إلى التجمع حول "المهدي" الذي قادهم حتى تمكن من تهديد مدينة قنا، وعاد محمد علي فكثف قواته في هجوم مضاد ضد الثوار وألحق بهم هزيمة أخرى، غير أن أعمال المقاومة العنيفة استمرت فلجأ أحمد باشا طاهر محافظ الصعيد إلى إصدار الأوامر بذبح مئات الفلاحين وتعليق مئات أخرى منهم أمام فوهات المدافع ثم إطلاقها، وإلى إحراق العديد من القرى، وعقب ذلك قامت ثورة أخرى امتدت من إسنا إلى أسوان تحت قيادة أحمد بن إدريس عام 1824.

وفي الوجه البحري قامت انتفاضة مسلحة خطيرة في المنوفية عام 1824، واضطر محمد علي أن يذهب بنفسه على رأس قواته لقمعها، وقاد مشايخ الشرقية عصياناً مسلحاً بعد ذلك بقليل احتجاجاً على الضرائب غير المحتملة.

وهكذا يرصد المؤلف أن تاريخ مصر الحديث (1879 حتى 1952) هو حلقات متتابعة لإنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بدءاً بالثورة العرابية، ومروراً بالنضال الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد، ثم ثورة 1919، وانتفاضة 1935، وانتفاضات 1946 و1950، ثم ثورة يوليو 1952. 

 

إقرأ أيضا: قراءة لتاريخ مصر تبرئ الفلاح من الخنوع للسلطة الغاشمة (1من2)