كتاب عربي 21

العبث بمفهوم الأمن العربي (2-2)

1300x600
عاد مصطلح "الأمن القومي العربي" للذيوع في الخطابين السياسي والإعلامي لقوى الاستبداد في المنطقة، واقترن هذا الذيوع بالمشاركة التركية في ليبيا. وفي مقال سابق ذكرنا ما حدده أبرز مُنظّري الأمن القومي العربي، الراحل حامد ربيع، سواء على مستوى محددات المفهوم أو خصائصه. وإذا استلهمنا الإطار النظري لنقيس مدى تحققه على الواقع العربي الحالي، لوجدنا أن حكّامنا يقتفون كل أثر لمجافاة ما يُحقق الأمن القومي العربي.

ربما يكون مفيدا أن نعيد ذكر نقطتين متلازمتين، وهما أصل السياسة.. الأولى، قول ربيع: "الفكرة الأساسية التي يدور حولها المفهوم، أن أحد التزامات الدولة هو الحماية العضوية والمادية لكل مواطن ينتمي إلى الجماعة أولا، وللجماعة ثانيا كحقيقة بشرية، بحيث لا تُعرض كيانها لأية مخاطر بأي معنى من معانيها".

والثانية، كانت في حديثه عن خصائص الأمن القومي العربي، فذَكَرَ منها ما مفاده أنه "يستلزم تقنينا لمجموعة من المبادئ تتضمن قواعدَ للسلوك القومي تُمثل الحد الأدنى للحماية الذاتية، وهذا يفسر كيف أن الحاكم لا يملك أن يخرج على تلك المبادئ، وأن خروجه عليها لا يعني فقط فقد الشرعية، بل تعريضه لتهمة الخيانة العظمى".

هاتان النقطتان تستمدان أهميتهما من أنهما مقياس لحجم التأثير الشعبي على القرار السياسي، فإذا انعدم الأثر فلن تجد رعاية لحقوق المواطنين، كما ستجد إهدار القوانين مبرَّرا لهوى الحاكم، وما أدراك ما هوى صاحب السيادة! فهواه تشريع لقانون وخرق لآخر، وهواه سِلم أو حرب، وهواه بطش أو محاباة. وهي صور نشهدها كلها في منطقتنا، خاصة من نُظم ثالوث السُّوء الذي ما ائتلف على شيء إلا وأفسده.

بالنسبة إلى الأجيال التي نشأت في ظل كامب ديفيد وما بعدها، فإن مفهوم الأمن القومي العربي يظل غريبا على وجدانهم، بل إن الأجيال السابقة التي عاشت في ظل مفاهيم العروبة، شهدت انهيار الوحدة المصرية السورية بسبب سيطرة شهوة السلطة على "الزعيم الخالد"، وشهدت هذه الأجيال التوغل المصري في اليمن، وشهدت الخلافات المصرية السعودية، وشهدت العداوة السورية العراقية، مع أن الدولتين كانتا تحت ظل حزب البعث، فلا قومية ولا عروبة كانت موجودة قبل ذلك سوى في الخطاب الإعلامي.

والحق أن الإعلام رسّخ المفهوم في وجدان ذلك الجيل، وهو رسوخ محمود، لكن الأجيال التي ترعرعت في نظم ما بعد كامب ديفيد لم تشهد سوى العداوات العربية العربية، والخذلان العربي للعربي، والحروب العربية العربية، والاستقواء بالغرب على "الأشقاء العرب"، وصارت الاجتماعات المغلقة في القمة العربية منصة للإخفاق العربي وفرصة لتصفية الحسابات وجها لوجه، كل ذلك جعل مصطلح الأمن القومي العربي مجرد ذكرى تاريخية، أو فرصة للتندُّر إذا قيل على سبيل الجِدّ.

عندما تم استدعاء مصطلح الأمن القومي العربي من قِبل "مرشح الضرورة" منذ أقل من شهر، غلب الغضبُ التندّرَ، إذ كيف يملك المرء أن يكون وقحا لهذه الدرجة؟ أين الأمن القومي العربي من خطط تهويد القدس؟ وأين الأمن القومي العربي من خطط ضم أجزاء من الضفة؟ وأين الأمن القومي العربي من حصار غزة؟ وأين الأمن القومي العربي من احتلال فلسطين أصلا؟ وأين الأمن القومي العربي من احتلال العراق؟ وأين الأمن القومي العربي من تدمير سوريا واليمن وليبيا؟ وأين الأمن القومي العربي من سد النهضة؟ وأين الأمن القومي العربي من تدمير منظمة التعاون الخليجي؟ وأين الأمن القومي العربي من انهيار العملة في لبنان؟

أسئلة كثيرة لن تجد لها جوابا سوى أن الحديث عن الأمن القومي العربي في ظل ملفات بهذا التعقيد مجرد وقاحة من المتحدث.

يبقى سؤال اللحظة: "ماذا سيكسب الأمن القومي العربي من صراع عسكري مصري- تركي؟" صحيح أن وصول الخلافات إلى مواجهة عسكرية مباشرة أمر قد يشبه المُحال، لكن هذا الخيار ليس مستبعدا بصورة كاملة، خاصة مع تعدد الرسائل غير الناعمة، كالمناورات الحربية ومشاريع الاصطفاف وغارات الطيران "المجهول".

إن مصر وتركيا تمثلان أكبر جيشين في المنطقة، وأقواهما كذلك، والمنطقة لم تعد بها جيوش حقيقية سوى هذين الجيشين وجيش الاحتلال والجيش الإيراني. والدفع بمواجهة عسكرية بين مصر وتركيا، كما يضغط الإعلام الإماراتي ويعزف إعلام السيسي، لا يمكن تفسيره إلا بأنه تنفيذ رغبة المتربصين بالمنطقة على أيدي وكلائهم لتدمير ما بقي من الجيوش القوية لدينا. ولا يمكن لأي عروبي أو وطني أن يقبل بزج قواته المسلحة في صراع كهذا، لا على مستوى الجيوش ولا على مستوى الشعوب.

فمصر وتركيا يمكنهما أن تشكلا قوة إقليمية كبرى إذا تكاملتا ولم تتصارعا. ورغم الحدة التركية تجاه النظام المصري، فإن التقارب على المستويات الاقتصادية والعسكرية والتفاهم حول المصالح المشتركة، سيلقى ترحيبا شعبيا ولا شك في ذلك؛ لما يجمع الشعبين من تاريخ وثقافة مشتركين.

إن تصاعد الخلاف التركي المصري ليس في صالح أحد، والحلول العسكرية سواء بصورة مباشرة أو عبر وكلاء ليست في صالح أحد كذلك. وهذا الاختبار الصعب سيكشف مدى الوطنية التي تتمتع بها النواة الصلبة للجيوش الكبرى، وأغلب الظن أنها واعية للمخاطر ووطنيتها ستأبى الانزلاق في الفخ الذي سيهدم كل شيء على رؤوس الجميع.

وهذه اللحظات الحرجة تؤكد أن الديمقراطية ستظل دائما وأبدا هي العاصم من الانجراف نحو ما يهدد الأمن القومي لأي بلد، أو الأمن القومي للإقليم.

twitter.com/Sharifayman86