أخبار ثقافية

غسان كنفاني رجل اللغة العارية

قتل كنفاني في مثل هذا اليوم قبل 48 عاما- وكالة وفا

تبدو مفارقة غريبة أن نستيعد حوارات غسان كنفاني اليوم. فلغته ومفرداته عن الصراع السياسي وقضايا النضال عامة، وعن القضية الفلسطينية خاصة، تبدو غريبة عن الخطاب السياسي الذي يقدمه إعلامنا وقادتنا السياسيون منذ سنوات طويلة.


تتعمق المفارقة وتشتد وطأتها كلما صادفتنا الأخبار الأخيرة عن رغبة إسرائيل في ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى سلطتها، في سياق سياسي يتسابق فيه القادة العرب لتطبيع السلام العربي إسرائيل، وترسيخ مبدأ واضح يجتهد إعلام كل دولة عربية في إقناع الشعب به: "مصلحتي هي الأهم". ما دام السلام "الدافئ" مع إسرائيل يحقق فوائد اقتصادية، أيا كانت، فأهلا ومرحبا بالسلام ودفئه.


في ذلك السياق، يصدمني كنفاني بكلماته، بلغته الحادة العارية حد الوخز.

 

في لقاء مع صحفي أجنبي، يحاول الصحفي ارتداء كرافتة السياسي؛ ينمّق لغته، يسأل كنفاني بلغة لائمة عن سبب رفض "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" الدخول في حوار مع قادة إسرائيل، فيجرد كنفاني سلاحه: اللغة العارية، ويفضح زيف التسميات السياسية للفاشية الصهيونية. يستدعي الصحفي مفردات البؤس والفقر والحوار والسلام... لكن غسان منذ البداية يباغته: أنت لا تقصد محادثات السلام بل الاستسلام. وهكذا حتى يرتبك الصحفي فيسأله لماذا لا تتحدثون فقط معهم؟ يفاجئه غسان ثانية "إنه نوع من المحادثة بين السيف والرقبة".


الحوار قصير لكنه مفتاح لفهم رؤية غسان السياسية، ولعلي أسمح لنفسي بالتوسع فأقول بل هو مفتاح لفهم رؤية غسان للعالم، بكل ما انطوت عليه من التورط الإبداعي والإعلامي وغيرهما. مثلا، تبدو هذه القدرة على تعرية الأشياء والنفاذ إلى أعماقها مفتاحا لتأمل روايته البديعة "رجال في الشمس"؛ ففيها يعمد كنفاني إلى كشف العلاقات المتشابكة بين احتياجات البشر ومصالحهم وخياناتهم، بل وضاعتهم، التي يخجل معظمنا من التصريح بها.


يسمي كنفاني كل شيء باسمه الحقيقي، دون طنطنة ولا تزويق، وأيضا بذكاء فني ينفر من الطنطنة السياسية والشعارات المباشرة. فاللاجئون الفلسطينيون الثلاثة "أبو قيس ومروان وأسعد" عاجزون عن الحياة في أوطانهم، مضطرون للهجرة والتيه في الأرض. وبسبب الفقر يحلمون بالهروب من العراق إلى الكويت في سيارة "أبو الخيزران" الذي يغامر بحياتهم مستغلا ظروفهم مع أنه ابن وطنهم الذي أصابه العدوان الإسرائيلي ذاته.


ولن يتسع المجال هنا لتحليل الرواية كما تستحق، لكنني أذكر منذ قرأتُها تفاصيل مشهد الرجال الذين طهتهم الشمس في خزان السيارة، بينما أبو الخيزران ينهي إجراءات عبوره، وللمفارقة يعطله موظف سخيف يصر على سؤاله عن تفاصيل علاقة مزعومة مع راقصة، ليتحمص الرجال الثلاثة تحت الشمس بسبب قصة زائفة تضاهي بطولات الأنظمة العربية التي تقتل الآلاف من شعوبها تحت ستار مقاومة إسرائيل.


أنْ تضع يدك على الحقائق الجوهرية لصراعات البشر وتعريها دون رطانات سياسية، هو موهبة أدبية نادرة حازها كنفاني، ولعل في استشهاده جلاء واضح للمعنى. فلم تجد إسرائيل حلا سياسيا تناوره به، لم يكن ممكنا إلا تفجيره بهذه البشاعة حيث يتلاشى الجسد بينما تبقى الرؤية عابرة للأزمنة الممتلئة بالنفاق والحلول الدبلوماسية.


تجلو الاقتباسات المأثورة عنه ذلك المعنى أيضا. مثلا: "يسرقون رغيفك.. ثم يعطونك منه كِسرة.. ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.. يا لوقاحتهم". "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث كل ذلك". "كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود". أليس كاتبا قادرا على النفاذ إلى صميم الأشياء؟


مفارقةٌ مؤلمةٌ أن يستعير قادة العالم المجنون الآن لغة كنفاني العارية، حيث لا يجد ترامب ونتنياهو الخاضع لتحقيقات حول فساده.. لا يجدان غضاضة في تعرية الصراع أيضا وإعلان نواياهما الإجرامية بوقاحة غريبة عن عالم السياسة. لا سلام بيننا، لا بد أن يبيد أحدنا الآخر! هكذا بلغة كنفاني الحادة الصريحة.


المفارقة مؤلمة لأن هذه التعرية تليق بالمهمشين، المناضلين في سبيل حقوقهم، لا السفاحين الذين يحتمون دائما وراء شعارات التعايش ومحادثات السلام.


هذا زمن نفتقدك فيه يا غسان.


وُلد كنفاني في عكا، يوم 9 أبريل 1936، ونشأ في يافا، ثم نزحت أسرته على إثر عدوان 1948. قضى شطرا من طفولته في لبنان ثم سوريا التي نال منها شهادة الثانوية العامة. ثم عمل في التدريس بدولة الكويت في الخمسينيات كما شق طريقه صحفيا ومبدعا. في عمره القصير ألّف 18 كتابا تراوحت بين القصص القصيرة والروايات والمسرحيات والأبحاث، بالإضافة إلى سيل من المقالات والأبحاث في الشأن السياسي والثقافي.


وعلى شاكلته في الحياة كانت زوجته آني هوفر، الفتاة الدنماركية التي سمعت بالقضية الفلسطينية في ملتقى طلابي بيوغوسلافيا، فسافرت إلى دمشق وبيروت لاكتشاف القضية ودعم اللاجئين في المخيمات حيث التقت بغسان باعتباره مرجعا عن القضية الفلسطينية. بدا واضحا أن فتاة تسافر من أقصى العالم المتحضر لتساند شعبا شرده الظلم والاحتلال، هي اختيار مثالي للكاتب الشاب، المتصالح تماما مع ذاته. لذلك قدّم لها عرض زواج لائقا بهما: "أنا مريض سكري، فقير لا مال عندي، ولا هوية، وأعمل في السياسة وحياتي ليست آمنة"! وتزوجا سنة 1961 وأنجبا طفلين: فايز وليلى.


وفي 8 يوليو 1972 وقفت آني تلوح من الشرفة لزوجها غسان وابنة شقيقته لميس بينما يركبان السيارة التي كان الإسرائيليون قد فخّخوها، لتنفجر ويرحل الشهيد بينما تمضي آني مدافعة شرسة عن القضية الفلسطينية، مكرّسةً عمرها لنشر أعماله.