قضايا وآراء

الساقطون في امتحان المحن

1300x600
ربما كان كثير من العلمانيين يمارسون الإسلامية وهم لا يشعرون، كما أن قطاعا لا بأس من الإسلاميين الأقحاح يمارسون علمانيتهم، وهم لا يدركون، والمقياس في كل حال هو العلاقة بالقيمة والقداسة إضفاء أو نزعا عن العالم والإنسان؛ فإن ظننت أن العالم مادي ومحايد، منزوعة أخلاقه، ليس فيه خير ولا شر، بل مصالح مادية ليس إلا، وارتأيت أن جميع الأمور نسبية، فالظلم قد لا يكون ظلما أحيانا، فأنت علماني قح، وإن صمت وحججت وصليت وواظبت على الأذكار.

حين ترفض أن يحكم الملكوت شيءٌ خارج عنه ومتجاوز له، كالغيب أو الأخلاق والمطلقات، ويتغلغل هذا الاعتقاد في قلبك، وتعبر عنه بفيك ويدل سلوكك عليه، أيا من كنت فأنت علماني يا أخي.

لقد أنتج الانقلاب العسكري بمصر، فيما أنتج من بلاياه وابتلاءاته، فرزا جديدا يعتمد على أصالة التعامل الأخلاقي مع المحن، سواء داخل السجون أو خارجها أو في بلاد الغربة، فرزا قيميا بامتياز يعتمد على أساس الموقف من الإنسان المواطن وفهم المواطنة.

ولقد سقط في هذا الامتحان الفارز هؤلاء الذين سُجنت بعض عناصرهم، لكنهم شمتوا في عناصر غيرهم لمجرد الاختلاف معهم سياسيا، فيفرح في ظلم الآخر من غير ثلته، كما يفرح في اعتقال رجال فروا من القارب الانقلابي بعد ما تبين لهم شناعة الاختيار، وكأن الشتاء في السجون لهؤلاء منتجعا ولذويهم زمهريرا! إذ القيمة مطلقة، وقولك بنسبيتها عين العلمانية يا صديق.

كما سقط هؤلاء الفارون لدول أخرى إذ قبلوا أن يصيروا "أسرى فكريين" لغيرهم، يقولون كلام غيرهم، فانسحب من أيديهم كل خيط، وصاروا كعرائس المولد تحركهم أياد خفية يبدعون في نكرانها، رغم أن الخيوط العالية واضحة للعيان. هؤلاء الأسرى (العرائس) تشتتوا فيما بينهم، وصاروا طرائق قددا، بعضهم بمزاجه ارتمى في أحضان المناصب الدنيوية الزائلة، وبعضهم انهالت عليه الدنيا مقابل أن يُدجنوا ويمثلوا على الناس بالكذب أنهم ثائرون أو مصلحون. 

وبعضهم في سرّية مطلقة أقرّ بهزيمته، فانسحب من الحياة العامة مؤثرا الامتيازات العظمى التي يجنيها من جراء هذا الإقرار، محولا تاريخه السابق في النضال لمجرد سلعة ماضوية يقدمها ليتربح بها الآن وغدا بدون اعتذار لأمسه.

وآخرون فرحون بما آتاهم الله من فضل الانقلاب، ويدعون الله أن يديم نعمة الانقلاب ليستمروا في النعيم المادي الذي لولا الانقلاب ما وصلوا إليه.

وياللعجب! ومن قبل تعجب الشيخ محمد الغزالي، في الحق المر وغيره، من شباب المجاهدين الأفغان كيف أرغموا أنف الجيش السوفييتي في التراب وهزموه شر هزيمة، ثم انهزموا هم في معركة التربية وصدمة الحداثة، فتنازعوا وتصارعوا من أجل شهوات الحكم والمال.

ما يجمع كل هؤلاء وهؤلاء على اختلاف أنواعهم، هو نزعهم لقداسة الإنسان الذي هو بناء الله وخليفته الذي منحه المركزية لإعمار ملكوته على الحق والعدل، وإضفاؤهم القداسة على مادية شديدة الزوال والذوبان.

أما الأجيال الحقيقية القابضة على جمر اليقين، التي روحها وعقلها وبصيرتها هنالك في الميادين، فلا تلتفت لكل هؤلاء الساقطين في امتحان المحنة.