قضايا وآراء

الرئيس قيس سعيّد: منحة أم محنة؟

1300x600

رغم تراجع شعبية الرئيس التونسي قيس سعيد حسب عمليات سبر الآراء، فإنه يظل الشخصية السياسية الأكثر شعبية بين الناخبين المسجلين، ففي استبانة أجرتها مؤسسة "إمرود" أوائل السنة الجارية، أكّد أكثر من 50 في المئة من التونسيين ثقتهم في رئيسهم خلال المئة يوم الأولى من عهدته الرئاسية.

ورغم هذه الشعبية، قد لا يكون من المبالغة أن نقول إن الرئيس التونسي قيس سعيّد هو من أكثر الشخصيات إثارة للجدل، بصحبة شخصيتين سياسيتين أخريين هما السيد راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التي تعاني من مشاكل داخلية ومن عدم القدرة على ضمان تحالفات استراتيجية مع القوى العلمانية، والسيدة عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحر ذي المنزع الفاشي الاستئصالي، ووريثة التجمع المنحل والحليفة الموثوقة لـ"محور الشر"، والحريصة (مع بعض الشخصيات العامة الأخرى) على تفعيل الاستراتيجية الانقلابية في تونس.

قيس سعيّد: من الخبير الدستور إلى الزعيم السياسي

مهما كان أثر السياق الذي أوصل السيد قيس سعيّد للرئاسة أمام منافسه في الدور الثاني السيد نبيل القروي، فإن الفوز الكاسح أعطى للرئيس شرعية تنافس شرعية الأحزاب، بل تتجاوزها رغم محدودية صلاحياته الدستورية، وهو ما جعل الرئيس يرفع من سقف التحدي للأحزاب كلها، بحديثه عن "المشروعية" المرتبطة بالأداء والإنجاز، لا المرتبطة بإرادة الناخبين كما هو الأمر في "الشرعية". وبحكم استمرار الانقسامات السياسية على أسس هوياتية أو ثقافوية لا علاقة لها بانتظارات الناخبين، ولا بحاجياتهم الحياتية، وبحكم عجز حركة النهضة عن تمرير مرشحها لرئاسة الحكومة السيد الحبيب الجملي، استطاع الرئيس أن يصبح رقما صعبا في التوازنات السياسية، وهو ما جعله يمارس صلاحيات أكبر لم يكن يحلم بها في ظل حياة حزبية طبيعية، ولكن تلك الصلاحيات تظل دستورية وليس فيها أي شبهة استقواء على مؤسسات الدولة الأخرى.

لقد جاء الرئيس قيس سعيّد من عالم الجامعة (فهو خبير دستوري)، ووظف معارفه الأكاديمية ومواقفه المنحازة للثورة ليدخل عالم السياسة من خارج الأحزاب كلها، بل ومن خارج الفلسفة السياسية للجمهورية الثانية التي كانت محل إجماع وطني في الدستور. ورغم أنه لا تاريخ له في النضال قبل الثورة، فإنه استطاع أن يكتسب مصداقية كبيرة بين عموم المواطنين على اختلاف مشاربهم الإيديولوجية، خاصة بمواقفه المبدئية من "القضايا الكبرى" مثل قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني، عندما اعتبر "التطبيع خيانة"، وقضية تعاطي أجهزة الدول والأحزاب مع ملفات الفساد المتعلقة برموز النظام السابق في قضايا المصادرة أو المصالحة، ولكنّ شعبيته جاءت أساسا من حرصه على "المفاصلة الجذرية" مع الطبقة السياسية كلها وأحزابها، سواء أكان ذلك بعدم تكوين حزب سياسي أم كان برفض التمويل الخاص أو حتى العمومي خلال حملته الرئاسية، أم كان بتحميل المنظومة الحزبية ذات الدور المركزي في الديمقراطية التمثيلية مسؤوليةَ ما آلت إليه أوضاع البلاد بعد ثورة 7/14 المجيدة.

هل تصلح "الضرورة السياقية" لبناء بديل سياسي؟

يعلم كل الذين اختاروا السيد قيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية بدورَيها، على الأقل بصورة كلية تنقصها التفاصيل، أنه ضد المنظومة السياسية/ الحزبية الحاكمة، ويعلمون أيضا أنه يطمح إلى تعديل نظام الحكم ليكون ديمقراطية قاعدية (لا تمثيلية)، في إطار نظام للحكم تتمركز فيه السلطة بين يدي رئيس الجمهورية. وإن كان الذين ساندوا السيد قيس سعيّد في الدور الأول مقتنعين بهذا الطرح، فإن من انتخبوه في الدور الثاني لم يكونوا جميعا على قناعة بأطروحاته السياسية. فانتخابهم له كان في الأغلب "ضرورة سياقية" وليس اختيارا مبدئيا. فهم قد انحازوا "للثورة" ولمشروع القطع مع المنظومة القديمة ورموز فسادها، ولم تكن أصواتهم تعبّر بالضرورة عن انحياز لمشروع السيد قيس سعيّد السياسي.

ولكنّ هذا "اللبس" (أو هذا الواقع السياسي) لم يمنع رئيس الجمهورية المنتخب من استثمار تلك الأصوات ضد خصمه الأساسي: مجلس النواب باعتباره المصدر الأصلي للسلطة، والأحزاب السياسية باعتبارها الوسيط الأساسي في الحكم.

يلاحظ المتتبع لخطابات رئيس الجمهورية، حتى في المناسبات الدينية، أنه لا يفوّت فرصة لمهاجمة الطبقة السياسية بمختلف أطيافها. وهي هجومات كانت تصدر على استحياء وبمفردات عامة لا تعيين فيها ولا إعلان عن بدائل واضحة وقابلة للنقاش العقلاني الرصين.

فالرئيس مع "إرادة الشعب" التي خذلتها الأحزاب، ولكن الرئيس ليس وصيا على الشعب الذي يريد، بل هو مجرد ناطق باسمه أو مجرد ضمانة مؤسساتية لتنزيل تلك الإرادة القاعدية في الواقع. ويبدو أن الرئيس قد قرر في المرحلة الأخيرة صياغة تلك "الإرادة الشعبية" في مشاريع قوانين يعتزم طرحها أمام البرلمان.

ولا شك في أن مثل هذه الفلسفة السياسية تسحب من "الديمقراطية التمثيلية" ومن الأحزاب المهيمنة عليها أي أساس للشرعية؛ لأنها تعتبر إرادة الناخبين التي تعكسها صناديق الانتخابات إرادة زائفة على عكس الإرادة الشعبية التي يمثلها قيس سعيد، التي قد تجد شرعيتها النهائية في الاستفتاء الشعبي العام.

أليس التطبيع مع "عرّابي صفقة القرن" خيانة؟

رغم إجماع كل التونسيين على استحالة الطعن في الذمة المالية لرئيسهم قبل الثورة وبعدها، فإن هذا الإجماع سرعان ما يتلاشى عندما ننتقل من "الأخلاق" إلى السياسة. فبصرف النظر عن ضبابية مشروع الرئيس في الديمقراطية القاعدية، فإن مواقفه في السياسة الداخلية والخارجية لم تزد الحياة السياسية إلا ارتباكا.

فالعديد من التونسيين يرون أن رفض الرئيس القيام بدور الوساطة بين الأحزاب لتخفيف حدة الاحتقان ومفاعيله الكارثية على السلم الأهلية وعلى المناخ الاجتماعي وفرص الاستثمار، هو أمر مقصود لأنه يزيد في إضعاف الأحزاب وإفقادها شرعية وجودها، بحكم أنه يمنعها من تحقيق أية "مشروعية" مرتبطة بالإنجاز. كما أن مقولته الشهيرة عن التطبيع باعتباره "خيانة" أصبحت مثار تشكيك، بعد ما يظهره من تقارب مع دول "محور الشر" الراعي للانقلابات في كل دول الربيع العربي، وكذلك بعد صمته غير المفهوم على التدخلات المفضوحة لذلك المحور في إفساد الحياة السياسية ورعاية القوى الانقلابية ودعمها إعلاميا (بل ماليا كما هو مرجح)، وعدم التنديد بتلك التدخلات في الشأن الداخلي التونسي، كما يُفترض برئيسٍ هو المسؤول الأول عن ملف السياسة الخارجية.

قيس سعيّد: شريك أم بديل؟

لو أردنا البحث عن حذر "اللبس" أو السبب الأصلي في ترسيخ المخاوف المشروعة من الرئيس التونسي، فإننا نستطيع صياغتها في السؤال التالي: كيف يمكن لرئيس لا يعتبر نفسه جزءا من الطبقة السياسية ويتحرك بمنطق التضاد أو التنافي معها، وفي أفضل الحالات بمنطق استلحاقها وتدجينها، أن يكون ضمانة لمشروع وطني توافقي لا يهدد الحريات السياسية وغيرها من الحريات؟ أو لنقل: كيف يمكن لمن يتحرك بمنطق "البديل" أو "الزعيم" أن يكون "شريكا" مطمئنا لباقي الفاعلين الجماعيين، خاصة منهم الفاعلين السياسيين؟ إنها إشكالية قد يكون على الرئيس وفريقه التفكير فيها جيدا، بعيدا عن "فتنة" نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة، كما قد يكون على الأحزاب كافة (سواء منها تلك التي تتقاطع تكتيكيا مع رئيس الدولة أو تتصادم معه)، أن تفكر فيها بعيدا عن الضغائن الأيديولوجية والاصطفافات الإقليمية والحسابات الشخصية التي تكاد تعصف بالحياة السياسية كلها.

 

twitter.com/adel_arabi21