قضايا وآراء

روسيا التي تتأمر على نفسها

1300x600
لطالما فسّر كهنة الكرملين السياسة الدولية بوصفها مؤامرة، وفي أحسن الأحوال لعبة موجهة ضد الأمة الروسية، الأمة التي تسيطر على ربع مساحة الكرة الأرضية، وتعتبر من أكبر المنتجين العالميين للنفط والغاز والقمح.

وكانت العرافة البلغارية الشهيرة "بابا فانجا" قد تنبأت بتراجع الغرب وانهيار قواه وتسيّد روسيا للعالم في هذا القرن.

لكن المؤامرة ليست الأداة الوحيدة لإسقاط الأمم، وإن كانت أداة من أدوات هذه العملية، بدليل ان روسيا أكثر الدول في العصر الحالي استخداماً للمؤامرات، ولم ينتج عن ذلك لا سقوط أعدائها ولا تبوؤها مركزا عالميا مهم، وهي في أحسن الأحوال، ورغم مساحاتها الشاسعة وثرواتها المهولة، تبقى قوّة إقليمية تقتات على بقايا أسلحة الاتحاد السوفييتي المنهار، والذي أثبت أن أسباب عظمة الأمة وانهيارها إنما ترجع بالدرجة الأولى إلى عوامل داخلية؛ تتمثل بشرعية الحكم وديمقراطيته، وقوّة القانون ونفاذه.

كما لا يمكن لأمة التربع على عرش القوّة والمجد من خلال البروبوغندا وقدرة أجهزتها الإستخباراتية على التحريض وإثارة البلابل لدى الأخرين، أو براعة وسائل إعلامها في التزوير والردح، فروسيا مثلاً صرفت طاقات هائلة لإثبات أن أسلحتها لا يشق لها غبار، لكن لم يطل الوقت لتثبت التجارب العملانية أن فخر صناعاتها، "أس 300" و"أس 400"، ذات كفاءة تشغيلية منخفضة، وأن الدول التي اشترتها، بما فيها تركيا، بدأت تشعر بالورطة التي وقعت فيها.

ولعل ما يثبت اعتماد روسيا على التزوير حتى على مستوى تنبؤات "بابا فانجا"، أن تحقيقاً أجرته صحيفة واشنطن بوست عام 2012 كشف أن أغلب التنبؤات التي ورد ذكر روسيا وعظمتها جاءت عبر وسائل التواصل الإجتماعي الروسية، وعندما قابلت صحيفة "24 تشاسا" البلغارية جيران "بابا فانجا" قالوا إنها لم تتنبأ بالأحداث التي يذكرها الروس تحديداً.

مشكلة روسيا الكبرى خطؤها في التقديرات، فالقيصر بوتين لا يسمع إلا ما يريد سماعه. ويبدو أن نخبة المستشارين القريبة منه تصنع له تقديرات مستوحاة من رغباته، وربما هو من يوجه بها، كما كان يفعل معمر القذافي حينما يطلب من الدوائر الاستشارية القريبة منه صياغة أفكاره على شكل مشاريع، مثل مشروع الوحدة الأفريقية، وتركيز الجهود والموارد لتحقيق هذا الهدف، بغض النظر عن التكاليف والجدوى المتوقعة لمثل هكذا مشروع.

قام مشروع نهضة روسيا، في العهد البوتيني، على مبدأ عنترة بن شداد "ضرب رأس الضعيف ضربة ترتعد منها فرائص القوي"، لذا بالغت روسيا في إبراز قوتها ضد خصوم أقل قوّة منها بكثير، واستخدمت كامل منظومات أسلحتها، وأحياناً كثيرة ضد أهداف صغيرة، كما فعلت عندما ضربت مناطق في دير الزور بصواريخ كاليير المجنحة، المصممة لضرب أهداف دول كبرى، أو طائرات "سو 35"، أحدث نسخ الطائرات العسكرية الروسية التي تم استخدامها ضد أهداف مدنية في حلب، علماً أنه كان بالإمكان تحقيق النتائج العسكرية المطلوبة باستخدام الأجيال القديمة من الصواريخ والطائرات، ما دام الخصم لا يملك سوى أسلحة قديمة ومتخلفة.

تعرف روسيا أن الساحات التي تتدخل بها ساحات محروقة بالنسبة للاعبين الدوليين، وغالباً ما يجري توريطها بها، لكن روسيا لا تكف عن تصوير تدخلها في هذه الساحات على أنه انتصار استراتيجي ودلالة على قوّة حضورها في المسرح الدولي كقوّة مقرّرة وفاعلة. بل تعتبر أن هذا الحضور تم انتزاعه من بين أنياب الخصوم، وهو زعم مجاف للحقيقة، فليبيا على سبيل المثال كانت ساحة مفتوحة للغرب وقواته هي التي ساهمت بإسقاط القذافي، لكن الغرب تراجع عن التدخل، أو لنقل انه ترك الأمر لليبيين بعد استلام المجلس الوطني الانتقالي للسلطة (2011). وبعيدا عن النوايا الغربية من وراء ذلك، إلا أن المؤكد أن القوى الغربية قدّرت خطورة استمرار تدخلها، الذي بررته بأنه إنساني الهدف منه منع القذافي من ارتكاب مذبحة ضد مدينة بنغازي.

تسللت روسيا إلى ليبيا تحت جنح المرتزقة، وبأسلوب لصوصي لا يليق بدولة تدّعي أنها قوى عظمى. ومؤخراً أرسلت طائراتها خلسة وتحت جنح الظلام، وبعد إجراء عمليات تمويه مكشوفة. لكن من الواضح أن رهاناتها على تحقيق مكاسب من وراء تدخلها في ليبيا، لا تختلف عن رهانها بالثراء والمجد من وراء تدخلها في سوريا، بعد أن أصبحت سوريا ورطة لها ربما تكلفها الكثير، وربما تتحوّل إلى مستنقع تتحطم به أحلام القيصر بوتين، فلا هي قادرة على إيجاد طريقة خروج مناسبة، ولا تستطيع تسويق "انتصارها" على جثث المدنيين السوريين ودفع العالم للاعتراف به.

ربما هناك من يتأمر على روسيا لإغراقها في مستنقعات موحلة تستنزف فائض ثرواتها، وتشذّب جنون طموحات نخبها، لكن روسيا بدورها تقدم خدمات مجانية للمتآمرين عليها عبر تصديق مزاعمها بأنها قوّة عظمى يحق لها ما يحق للاعبين الكبار.