قضايا وآراء

الدولُ يبنيها العقلاء ويخربها السفهاء.. تونس في قلب العاصفة

1300x600
1- ريادية التجربة وتعثرها

بعد أكثر من تسعة أعوام على هروب رمز النظام الاستبدادي في تونس، ما زال المسار الديمقراطي في مرحلة التجريب والتعثر بين "التوافق" و"التراشق". ورغم أن تونس وفي هذه المدة القصيرة عرفت أربعة رؤساء جمهورية وسبعة رؤساء حكومات، ورغم أنها شهدت ثمانية انتخابات بين تشريعية ورئاسية وبلدية (وهو ما لم يشهده أي بلد عربي أو أفريقي أو حتى أوروبي)، ورغم ما يتوفر من منسوب عال من حريات التعبير والتنظم والاحتجاج، إلا أن الاستقرار المدني ما زال يبدو مهددا بمقادير تدعو إلى الحذر والتعقل، وتستدعي دورا أكبر لحكماء تونس من مثقفين وسياسيين ونقابيين وإعلاميين وخطباء منابر دينية.

وحين يفخر التونسيون بتجربتهم ويرددون باستمرار أنهم أبهروا العالم، فهم محقون إلى حد كبير في فخرهم ذاك، وفي اعتزازهم بأنهم أول شعب عربي يقتحم عالم الديمقراطية وينجح في إدارة انتخابات شهد لها كل مراقبي الداخل والخارج بكونها كانت انتخابات نظيفة، بمعايير أعرق ديمقراطيات العالم.

هذا الفخر لم يفارقه القلق بسبب كثير من المنغصات تزداد تكشفا واتساعا كلما ظن التونسيون أنهم توغلوا في التجريب الديمقراطي.

2- محاولات جديدة للإرباك

تفاجأ التونسيون بدعوات متزامنة تطلقها أكثر من جهة مطالبة بحل البرلمان وتغيير النظام السياسي وتعديل الدستور، ومحاكمة من هم في السلطة الآن، وخاصة من رموز حركة النهضة.

بل ثمة دعوات أكثر تطرفا، وهي التي تجرأ أصحابها على الدعوة إلى "إسالة" الدماء، وهي طبعا دماء الإسلاميين.

تناقلت الأسبوع الماضي صفحات التواصل الاجتماعي بيانا لمن يسمون أنفسهم "هيئة الإنقاذ الوطني"، وفيه كل الشعارات التي رفعها قيس سعيد خلال حملته الانتخابية وما زال يذكر بها في كل مرة. وكأن أصحاب البيان يحاولون الإيهام بأن الرئيس قيس سعيد يشجع مثل هذا العمل أو أنه شريك فيه، مستغلين ما يبدو من فتور علاقة بينه وبين رئيس البرلمان. هذا البرود في العلاقة حقيقي، وقد تأكد حين تعمد رئيس الجمهورية منذ أيام تغييب رئيس البرلمان عن جلسة متعلقة بالأمن القومي تخص الملف الليبي.

مجموعة أخرى تسمي نفسها "تنسيقية اعتصام الرحيل 2"، مستوحية التسمية من "اعتصام رحيل" 2013 الذي أجبر حركة النهضة يومها وشريكيها على الخروج من الحكم، والقبول بالحوار الوطني بإشراف المنظمات الأربع.

في ذات السياق، نادى الناطق الرسمي باسم حزب العمال جيلاني الهمامي بحل البرلمان (وصفه بالرجعي) وبإعادة الانتخابات. وقد شارك حزبه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية وخرج صفر اليدين. حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وهو حزب يساري، أيضا أصدر بيانا يتضامن فيه مع المحرضين على الفوضى.

ولعل الصوت الأعلى في هذه الطقس السياسي الغائم هو صوت عبير موسى، رئيسة الحزب الدستوري الحر، فهي من أشرس معارضي وجود الإسلاميين في الحكم ولا تكف عن اعتبارهم فرعا من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهي التي ظلت تُصدّع رأس البرلمان منذ جلسته الافتتاحية.

عبير موسى ينظر إليها الكثيرون على أنها صوت الثورة المضادة، ويعتبرها آخرون "القاطرة المستقبلية للمعارضة"، لكونها صاحبة كتلة برلمانية ظلت متماسكة حتى الآن، أيضا لكون معارضتها الشديدة لحركة النهضة قد تغري أطرافا يسارية بالتحالف معها ضد "عدو مشترك".

فرقة مكافحة الجريمة المنظمة التابعة لوزارة الداخلية أعلمت منذ ثلاثة أيام عبير موسي بكونها مهددة بالاغتيال، وبكون التهديدات جدية ومتعددة المصادر.

الحديث عن تهديدات بالاغتيال واستدعاء مفردات 2013 يذكر التونسيين بمرحلة سيئة جدا، ويُولد فيهم الكثير من القلق.

3- تداخل الوطني والإقليمي

الخلافات بين الأحزاب في تونس يتداخل فيها ما هو وطني بما هو إقليمي. فما هو وطني له آليات حسمه سواء داخل البرلمان في الجلسات العامة أو داخل اللجان ذات الاختصاص، وقد نجح التونسيون دائما ومنذ حكومة التوافق الأولى في تخطى كل المشاكل والخلافات. غير أن المشكل الحقيقي هو الخلاف حول قضايا إقليمية فرضت على الفاعلين السياسيين أن يكونوا ضمن "محاور" لها امتداداتها الدولية.

الملف الأكثر سخونة اليوم هو الملف الليبي، وتختلف الأحزاب التونسية في تعريف "الشرعية" وفي تحديد السياسة الخارجية لتونس تجاه القضايا الساخنة في الإقليم وفي العالم.

سياسة النأي بالنفس عن سياسة المحاور التي ينادي بها البعض يعتبرها آخرون موقفا سلبيا من صراع بين دعاة التحرر ودعاة التسلط.

حركة النهضة وحلفاؤها يعتبرون أن الشرعية الدولية والثورية هي مع حكومة السراج، ويعتبرون الدعم التركي خصوصا هو انتصار للثورة وللشرعية ضد المشير خليفة حفتر وداعميه من أنظمة عسكرية، وأولها نظام سيسي مصر.

وصول طائرة تركية فجر الجمعة (8 أيار/ مايو الجاري) إلى مطار جربة بالجنوب التونسي محملة بالمساعدات الى ليبيا أثار جدلا كبيرا. وقد أصدرت رئاسة الجمهورية التونسية بيانا جاء فيه: "تفيد رئاسة الجمهورية بأنها سمحت بنزول طائرة تركية محملة بمساعدات طبية بمطار جربة جرجيس الدولي، شرط أن يتم تسليم ما بها من مساعدات موجهة إلى الأشقاء في ليبيا إلى السلطات التونسية (أمن وديوانة)، وشرط أن تتولى السلطات التونسية وحدها دون غيرها إيصالها إلى معبر رأس جدير ليتسلمها الجانب الليبي".

ورغم هذا التوضيح وهذا الحذر الرسمي من "شبهة" الاصطفاف، فإن أطرافا سياسية عديدة تعتبر أن مثل هذا الموقف هو خروج عن سياسة الحياد التي عُرفت بها تونس منذ حكم بورقيبة. وثمة دعوة لمساءلة رئيس البرلمان الأستاذ راشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة) حول علاقاته بتركيا ودوره في تسهيل تدخلها في الشأن الليبي، يتصدر هذه الدعوة كل من كتلة عبير موسي وكتلة الإصلاح، فيما دعت الكتلة الديمقراطية التي تمثل حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي إلى مزيد التشاور مع قادة الحزبين، ولعلهما يجدان نفسيهما في موقف حرج لكونهما شريكين مع حركة النهضة في الائتلاف الحكومي.

4- مخارج تجاوز الأزمة

سيظل التونسيون يموج بعضهم في بعض ولعقود أخرى بسبب تعدد المرجعيات الأيديولوجية، وبسبب تعقيدات الصراعات الإقليمية والدولية وامتداداتها في بلدان ما زالت عاجزة عن أن تكون خارج مدارات ومحاور بسبب تبعياتها الاقتصادية تحديدا، وما ينجر عنها من تبعيات سياسية وثقافية وأمنية.

غير أنه (وبكثير من التفاؤل والوعي) يمكن رسم ضوابط ذهنية وأخلاقية تضمن التعايش ضمن مقوماتِ "ائتلاف" ثلاثة:

أ- هناك "ائتلاف حكومي" يضم الأحزاب والأفراد الذين قبلوا بأن يحكموا مع بعضهم رغم اختلافاتهم الأيديولوجية، ثمة ما يجمعهم وهو خدمة الناس ومعالجة المشاكل والتصدي للمخاطر. وليس مهما إن كانوا يحبون بعضهم أو لا يحبون، فعليهم احترام بعضهم بما يجعل التضامن بينهم ممكنا.

ب- وهناك "ائتلاف الديمقراطية"، ويشمل كل الأحزاب والجماعات التي قبلت بالاحتكام إلى الانتخابات كأبرز آلية من آليات ممارسة الديمقراطية. وهنا يُنتَظر القبول بحقيقة وجود كتل برلمانية تعبر عن رغبة عدد من التونسيين، فلا يمكن أن نقبل بهم شركاء في مشهدية ديمقراطية ثم يقع ترذيلهم في خطابنا السياسي وفي أدبياتنا، بما يسهم في تلويث البيئة السياسية وتوريث الأحقاد والكراهية، فتضيع الجهود والأوقات في الخصومات ونهمل قضايا الناس الحقيقية.

وإن من أوكد معاني الديمقراطية هو إكراه النفس على قبول المختلفين ضمن المشهد السياسي، وقبول المختلفين الذين انتخبهم الناس وقبول المختلفين الذين لا يشبهوننا في الأفكار والسياسات وإنما يقاسموننا الانتماء للوطن والخضوع للقانون.

ج- وهناك "الائتلاف المواطني" ويشمل مختلف المنتمين إلى الوطن ممن يخضعون لقانون الدولة ويؤدون واجبهم الوطني، فهم سواسية في هوية المواطنة، وليس لأحد (فردا كان أو حزبا) حق ادعاء امتلاك الحقيقية أو التفرد بصفة الوطنية والصلاح فيتهم غيره بالخيانة والعمالة والفساد، في عملية سطو على مهام الدولة المخولة قانونا عبر أجهزتها وأدواتها بمحاسبة المخالفين وتكييف المحالفات والجرائم وتسليط العقوبات المناسبة.

هناك كثير من العبث لا يُقدّر أصحابه تداعياته السيئة على السلم الأهلي وعلى مصالح الناس وعلى مستقبل الأجيال القادمة، لما سيورثه هذا العبث من أحقاد وكراهية وعداوات.

twitter.com/bahriarfaoui1