يعدّ طاهر العدوان واحدًا من الرّوائيين الأردنيين الذين حققوا حضورًا قليلاً على السّاحة الفنيّة العربيّة، وقد وُلد في "أبو نصير"، المنطقة الغربيّة الشّماليّة من عمّان، الواقعة بين منطقتي الجبيهة وشفا بدران، سنة 1944، عمل مُعلّمًا، ثمّ صحفيًا في مجال الإعلام، وتنقّل في القاهرة وبيروت وعمّان، الّتي استقرّ فيها رئيسًا لتحرير جريدة "العرب اليوم"، وقد أصدر ثلاث روايات، وهي على التّوالي: وجه الزّمان (1987)، وحائط الصّفصاف (1990) الّتي نحن الآن بصددِ قراءتها، ورواية أنوار (2000).
تصدَّرت دار الكرمل سنة 1990 إصدار رواية "حائط الصّفصاف"، وتحتل هذه الرّواية المرتبة الثّانية في تِعداد الرّوايات، وتتوزّع على 236 صفحة، والرّواية موزّعة على ثلاثة أجزاء، تحمل العناوين الرّئيسية التّالية: حائط الصّفصاف، ورحيل الجنرال، والاغتيال.
قدّم طاهر العدوان في رواية حائط الصّفصاف مادة تسجيليّة توثيقيّة، في مشهد من السّردِ الرّوائي الرّاقي، يكشفُ من خلالها عن تغيّرات الواقع الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ، ويُقدّم حالة من الوحدة الجغرافيّة والسّكانيّة القائمة بين الأردن وفلسطين، وقد جعل من شخصيّات الرّواية مزيجًا طاغيًا من البيئتينِ الأردنيّة والفلسطينيّة، هذا بالإضافةِ إلى المصريّة واللبنانيّة اللتينِ تعيشانِ كأقليّة في كنفِ البيئةِ الأردنيّة، وتتحدّث الرّواية عن التّغيراتِ الّتي طرأت نهاية حقبة الأربعينيّات، خاصّة بعد حرب فلسطين (النكبة) إلى نكسة حزيران.
خلال تلك الفترة، حدثت أمور كثيرة، تحديدًا في مطلع السّتينيات، حيث تغيّرت البلدة، وتغيّرت الأيام، وتغيّر النّاس، حتّى القيم والمبادئ تغيّرت، وهكذا تتحوّل ثنائّية الأمل والخيبة، الحلم واليقظة، التّفاؤل والتّشاؤم، الحياة والموت، الفراق واللقاء، التّخلّي والتّمسك، القبول والرّفض، الانتصار والانكسار، العجز والمواجهة، الضّعف والقوّة، الخير والشّر، الحبّ والكره، البقاء والزوال، الفرح وضدّه، والخداع وخِلافه، إلى مفارقة تُمارس على الشّخصيّة في الرّواية، ويكفي هنا مثلا أن يقتطع القارئ من الرّواية صورتين يوهم كلّ منهما أنّ لا صلة له بالآخر، وسيدرك أنّ قانون الصّراع بين الأمل والخيبة يعمل، على نحو ما نراهُ في شخصيّة محمود الّذي بنى أحلامهُ على أملِ اللقاء بخطيبته ليلى، الّتي تحمل صفات الجَمال والنّقاء والصّفاء، وقد أحبّتهُ وعشقتهُ بحجم عشقها للأرضِ والوطن، وإذ في النّهاية يأتي جميل سالم، الّذي لا يفكّر إلّا بالشرّ ولا يعيش إلّا على آلامِ وعذاباتِ الآخرين، مُطلقًا الرّصاصة الأخيرة من فوهةِ بندقيته على صدرِ ليلى في أثناء مراسم زفافها على محمود، مُعلنًا موتها، لتتفجّر صورة ثوب العروس الأبيض باللونِ الأحمر القاني مُحدِثًا الخوف والهلع، من هنا يُعمّق السّاردُ في نفسِ القارئ الإحساس بقوّةِ الفاجعة، والإحساس والشّعور الفاجع بالضّياع والخوف وخيبة الأمل.
الصّفصاف هو رمز للأمل والعودة والتّحدي والمقاومة والإصرار، وما سِوى ذلك من معاني الرّفض والصّمود، ويجسّد الوثيقة التي تُثبت أحقيّة الفلسطينيين في الأرض، لذلك لا غرو أن يبذلَ الفلسطينيّ من أجلها الغالي والنّفيس.
وتحمل الرّواية تصوّرَ الكاتبِ عن هذه المرحلة، وتوظيفها توظيفا فنيا، حيثُ الوحدةُ العربيّة، والتّعدديّة الحزبيّة الأردنيّة، وأجواء من النّضوجِ الفكريّ لا سيّما السّياسيّ والتّطور الحضاريّ خصوصًا العمرانيّ، كما تناولتْ مشكلةَ همومِ عددٍ كبير من الفلسطينيين وهموم أقلّية من اللبنانيين والمصريين، الّذين يرزحون في الأردنِ تحت وطأة العودةِ والأمل، وفي أنفسِهم حنينٌ دائم وجارف إلى أرضهم ووطنهم.
الرّواية امتزجَ فيها التّاريخ بالخيال، إذ تستحضر جانبًا من العلاقةِ الأردنيّة ـ الإنجليزيّة التي انتهتْ بالاستقلالِ، ومن ثمّ تعريب الجيش، وتطرّقت إلى العدوان الثّلاثي على مصرَ وإعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وانتهاءً بالانفصال، مُجسّدةً بذلك صدمة وخيبة التّوقع، بأسلوب فنّي سائغ.
وتعتمد بنيةُ الرّواية على تناسلِ الحكاياتِ وتوالدها، وهو ما أعطاها طابع التّشويقِ والإثارة، ما يُمكن أن أُسمّيه بالنّزوعِ القصصي القصير داخل الرّواية، وعلى الرّغم من أنّ الكاتب يستخدم تقنيات فنيّة متعددة في روايته، من مثل تقنية القطع والتّذكر والتّنقل من حكايةٍ إلى أُخرى، والحوار والتّعدد اللغويّ الذي بدا واضحًا بتعددِ الأصواتِ السّاردة وتذويب الكتابة، إلا أنّه اتّخذ في الوقتِ ذاته من التّاريخِ مادة للسّرد، مما من شأنه أن يُقلّل من فنيّة الرّواية، فقد أومأ إليه بالتّلميحِ تارةً وبالتّصريحِ طورًا، يدسّهُ في تلافيفِ مفاصل الرّواية، إذ إنّ من السّهلِ على القارئ العادي الإحاطة بمعظمِ مُجريات الأحداث، من غير أن يحتاجَ إلى كبيرِ عناءٍ لاستظهارها، ولا يتطلّب التّنقيب والبحث في المدوّنات الثّقافيّة عنها، لهذا لا أرى أي داعٍ لنقلها نقلا حرفيًّا، من هنا، فلا غرابة أنْ تكون لُغة الرّوايةِ واضحة وسلسة.
ومن محاسنِ الرّوايةِ أنّ الكاتبَ ينقل أحيانًا واقع التّجربة إلى واقعِ الأدبِ ولُغة الرّمز والإيحاء، وبالرّغم من أنّ توظيف الموروث الثّقافيّ خاصّة الشّعبي غاية جماليّة بالنّسبةِ للأدب، إلاّ أنّه جاء في هذه الرّواية التي لا يتعدّى فيها مشهدين بشكلٍ مُمل، وغير مُسوّغ، على نحو قول هند مُحذّرة ابنها بأن يحترس في ألّا يعدّ النّجوم، لأنّها ستنشر حبّات التّآليل على يديه.
أمّا المشهد الآخر، فيتمثّل بنقلِ السّارد المشهد الشّعبيّ للقريةِ، وهي تستقبل ظاهرة خسوف القمر بقرعِ الطّبول والهتافات الّتي تُبدد سكون الليل، بقصدِ إبعادِ الحوت الّذي يحاول ابتلاع القمر، وعلى هذا الأساس، يتنزّل الموروث الشّعبي ويتمظهر في الرّواية بمظهرِ الشّذوذِ والخروج عن المألوف، لهذا خرج الموروثُ عن السّياق الرّوائي، ولا أدري إذا كان هناك ثمّة مبررٌ فنّي لمثلِ هذا التّوظيف، وعليه لا أوافق الكاتبَ على إقحامِ الموروثِ في النّصِّ الرّوائيّ بهذه الطّريقة دون هدفٍ وغاية تتلاءم ومعطيات نصّه، ويقيني لو أنّ الكاتبَ نبذ هذا التّوظيف، لما فقدت الرّواية جماليتها.
وأيًا كان الأمر، فنحن وإن لم نختلف مع النّقاد كثيرًا في توظيفِ الموروث في الأدبِ روايةً وشعرًا، إلا أننا لا نتفق معهم بأنّ التّوظيفَ ينمّ عن براعةٍ وثقافة الكاتب، لكنّ الحقّ يُقال في أنّ الكاتب وفّق في خاتمةِ الرّوايةِ في تشخيصِ رؤيةِ الواقعِ الفاجع بالمأساة، من خلال موت ليلى وزوال عقل جميل، هذا بالإضافةِ إلى أنّ أبا تيسير تسلل إلى قريته المُحتلة في رام الله، وهو ما زال إلى الآن مجهول المصير، فإمّا أن يكون شهيدًا أو أسيرًا حسبما روت أم تيسير في أثناء عودتها من الضّفةِ الغربيّة إلى الأردن، وعلى هذا الأساس نجح الكاتبُ في تركِ خاتمةِ الرّوايةِ مُشرعة، مُحدثًا في نفسِ القارئ تشويقًا لأن يعرف المصير الذي آل إليه حال أبي تيسير.
من المعروفِ أنّ الصّفصافَ شجرٌ مقترنٌ في الذّهنِ بالجَمال ويُثير الارتياح عند رؤيته، في حين يستدعي الحائط بالمنعِ والحظرِ ويثير الخوفَ والنّفور، من هنا، يضعُ السّاردُ الحائطَ والصّفصاف في موقع غير موقعهما المنطقي، أي موقع المواجهة والتّحدّي
هذا وأعلنت المرأة بعد لحظة من الصّمت، وهي تكفكف دموعها وتضمّ ابنها إلى صدرها: "بعد سنوات سيبلغ إبني سنّ الرّجولة، يومها سينطلق على نفسِ الطّريق ليبحث عن أبيه، ليتفقّد البيت وشجرة التّين"، ومن هذا المنطوق السّردي لا يخفى على القارئ تلميحات السّارد إلى الإصرار والتّحدي والمقاومة.
وقد انتهت الرواية إلى أنّ علاقة الرّوائي طاهر العدوان بالواقعِ والتّاريخ كانت علاقة وثيقة، فهو ينظر إلى هذا الواقع والتّاريخ، بصفته مصدر إلهام لا غنى للرّوائي عنه، وأنّ هذه العلاقة لا تقوم على إعادة إنتاج، بقدر ما تقوم على التّفاعلِ العميق مع عناصره ومعطياته للتّعبيرِ عن التّجربةِ الرّوائيةِ الأردنيّة الحديثة، وإيصال أبعادها النّفسيّة والشّعوريّة إلى القارئ.
لذلك، بعد الفراغِ من قراءةِ الرّوايةِ يُمكن قراءة هذا العنوان من خلال ثُنائيّة القوّة والضعف، الممنوع والمسموح، ومن هذا التّرابط الضّدّي يتشكّل العنوانُ في صورةِ توحيدٍ لُغوي بين الكره والحبّ/ الزوال والبقاء.
ومن المعروفِ أنّ الصّفصافَ شجرٌ مقترنٌ في الذّهنِ بالجَمال ويُثير الارتياح عند رؤيته، في حين يستدعي الحائط بالمنعِ والحظرِ ويثير الخوفَ والنّفور، من هنا، يضعُ السّاردُ الحائطَ والصّفصاف في موقع غير موقعهما المنطقي، أي موقع المواجهة والتّحدّي، وعليه اتّخذ السّاردُ من الحائطِ رمزًا للمُحتل الغاصب / الاستعمار، والصّفصاف رمزًا واضح الدّلالة أكثر من غيره لفلسطين والأرض المغتصبة والوطن البعيد. وإذا ما تقدّمنا كثيرًا في قراءة الرّواية وحاولنا ربط الدّلالة، فسنجد أنّ أبا تيسر يعدّ واحدًا كغيره من الفلسطينيينَ الّذين نزحوا عن أرضهم غصبًا وفرضًا وقهرًا وظلمًا إلى الأردن، وأنّ حائطًا من شجرِ الصّفصاف يقع على تلّة شرقي قرية أبي تيسير المحتلة في فلسطين، كما يخفي المحتلون خلفه اخضرار بيته المسروق، وحائط الصّفصاف هو الذي يحجب عن اللاجئ الفلسطينيّ، وكلّ مُغترب ما يهوى وما يستنشق من نسيمِ البلاد.
ومن هذا نستنتج أنّ العنوان يعقد على ثنائيّةٍ محوريّة هي الموتُ والحياة، ويندرج تحت كلّ طرف منهما العديد من المُسمّيات التي تُعدّ تنويعًا على كلِّ دالٍ، كنّا قد أسلفنا القول فيه في عرضنا السّابق، إذ إنّ بقاء الفلسطينيين وعودة المغتربين مرهون بزوال الحائط الّذي يرمز للمحتل والمستعمِر، والصّفصاف هو رمز للأمل والعودة والتّحدي والمقاومة والإصرار، وما سِوى ذلك من معاني الرّفض والصّمود، ويجسّد الوثيقة التي تُثبت أحقيّة الفلسطينيين في الأرض، لذلك لا غرو أن يبذلَ الفلسطينيّ من أجلها الغالي والنّفيس.
بنات آوى والعرب.. كيف رأى كافكا العلاقة بين اليهود والعرب؟
الرياضيات وغرائب الفقه الإسلامي!
"مخلفات الزوابع الأخيرة".. إلى متى يدفع الفقراء الثمن؟