فى مسرحية "البطل ينهض" للكاتب البريطاني "جون أردن" يظهر لنا الأدميرال الإنجليزى الشهير "نلسون" أحد أكبر القادة الإنجليز في تاريخ الإمبراطورية.. وهو يعرف الناس بنفسه "إذا كنتم تجهلون من أنا.. فعليكم أن تشعروا بالعار..".
وخلال المسرحية سنجد أن "أردن" يريد أن يوحي إلينا بأن ما يقوله الأدميرال (وبالتالي أي أدميرال) ليس هو التاريخ الحقيقي.. بل التاريخ كما يرويه صاحبه.. ونحن علينا أن نصدق أو لا نصدق.. لا يهم. المهم هو كيف تمت صناعة أسطورة "البطل".. أيضا كيف صنعته رغبات الشعب الطيب نفسه والذي يشعر دائما بالنقص الذي يكمله هذا البطل! أو قل كيف صنعته الدوائر المحيطة بالبطل المفترض.. والإعلام الخادع للناس.. حتى تتعلق رغبتهم هم أنفسهم وتتوق لـ"بطل".. وهنا يجب على المثقف (كما يريد أن يقول الكاتب) عليه أن ينزع القناع عن هذا التاريخ.. ليس من خارج ذلك التاريخ ولكن من داخله.. كما قال كثير من نقاد المسرحية.
* * *
والمتأمل في الأحداث العربية الكبرى التي جرت في الخمسين سنة الماضية (خصوصا تجربة
الوحدة بين
مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة 22 شباط/ فبراير 1958) سيخرج بانطباع واحد قائلا: يا لهول كل هذا العبث.. لقد كان عبثا من النوع الغليظ جرى على شعوب ومقدرات ومصالح.. وفي فترة من أكثر فترات تاريخ المنطقة العربية استعدادا ويقظة لقيام نهضة كاملة.. نفس الفترة تقريبا التي نهضت فيها "النمور الآسيوية" من الستينيات إلى التسعينيات، وهي التي كانت من أفقر الكيانات عالمياً وأكثرها تأزماً لتصبح واحدة من أهم الدول الاقتصادية العالمية..
هذه الفترة تحديدا كانت من أكثر فترات العبث والمسرحة في منطقتنا العربية.. تأمل ما قاله "أردن" عن حاجة الشعب البائس إلى "بطل" كما ذكرنا أولا.. وتذكر في الوقت نفسه جموع الشعب السوري التي خرجت لتحمل سيارة هذا البطل بنفسها بدلا من أن تسير السيارة الكريمة وراكبها الكريم على الأرض.. الدكتور محمود فوزى، وزير الخارجية ورئيس الوزراء المصرى الأسبق، كان له تعبير مدهش في وصف مثل هذه المشاهد قائلا: "مسرحة بلا مسرح".. لقد كانت "الجمهورية العربية المتحدة" واحدة من أكثر مسرحيات تلك الفترة عبثا وضررا ممتدا بطول التاريخ الذي يربطنا بما تراه
سوريا اليوم.
* * *
"ولقد كان ذلك كله مدهشاً، ولكنه لم يكن من صنع الصدف. لقد مهدت عوامل كثيرة وكبيرة ونبيلة وعميقة لهذا الذي ربط بين مصر وسوريا.. مهدت الطبيعة ومهد التاريخ ومهد الدم ومهدت اللغة مهدت الأديان والعقائد مهدت السلامة المشتركة ومهدت الحرية.. كذلك اشتركت في التمهيد له تجارب من الألم والعذاب التي صنعها فرسان "الطغيان الثلاثة" السجن والمنفى والمشنقة، ولكن ذلك كله كان يمهد لهذا الفجر الذي نشهد اليوم.. مطلعه بعد ليل طويل". الرجل كان يتحدث جادا لا هزلا، بغض النظر عما شهده المصريون من تلك "الثلاثة" على يديه ألوانا.. ألوانا.
العقيد السوري عبد الكريم النحلاوي، ومهندس الانفصال فيما بعد (28 أيلول/ سبتمبر 1961) قال إنه عندما غادر وفد عسكري من سوريا إلى مصر (دون علم وإذن الرئيس السورى وقتها شكرى القوتلي) قال لهم "الزعيم الخالد" شروطه للقبول بالوحدة: "حل الأحزاب وعدم تدخل الجيش بالسياسة"!! باتريك سيل، الصحفي البريطاني الشهير ذكر في كتابه "الصراع على سوريا" نقلا عن حافظ الأسد قوله: إن
عبد الناصر كان لديه خوف مرضي من الأحزاب.. وكان يقول للبعثيين السوريين: "إنني إنسان صادق ونبيل فما هي حاجتنا للأحزاب؟"..
وهكذا تشكلت الجمهورية العربية المتحدة ذات الإقليمين الجنوبي والشمالي.. جمهورية لها حكومة مركزية واحدة في القاهرة يرأسها "الزعيم الخالد"، ويعاونه أربعة نواب عبد اللطيف بغدادي وعبد الحكيم عامر من مصر، أعضاء مجلس قيادة الثورة.. وأكرم الحوراني وصبري العسلي من سوريا، ومجلس تنفيذي لكل إقليم.
الزعيم الخالد لم يكن ذا فكر استراتيجي عميق.. لو كان كذلك لأدرك أن مشكلة المشرق العربي وفي القلب منه الشام.. مشكلة واحدة متصلة ومركبة.. فسوريا هي المساحة الأكبر من قطع الشام الأربع، أنشأتها أوروبا في ما كان من استكمالها للحملات الصليبية التسع.. وحتى لا ننسى سنتذكر الجنرال الفرنسي "غورو" حين دخل دمشق 1920م بعد معركة "ميسلون" الشهيرة.. ذهب من فوره إلى قبر صلاح الدين ووضع قدمه على الشاهد قائلا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"..
طوال التاريخ العربي والإسلامي المتصل وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن وحدة جغرافية وبشرية وسياسية واقتصادية واحدة وكاملة.. وحين مزقتها أوروبا إلى تلك القطع الأربع، والتي سيكون بينها "إسرائيل" أصبحت كل قطعة "كيانا كسيحا" لا يمكن أن يقوم بنفسه.. الجغرافيا السياسية تقول إن الأمم لا تقوم لها وحدة إلا إذا كانت تلك الوحدة كاملة الأعضاء (المعنوية/ التاريخية/ البشرية/ الموارد/ المواصلات/ الاقتصاد.. الخ). وهذا الأمر ينطبق على كل جغرافيا وكل سياسة.
تقسيم بلاد الشام الأربع (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) إلى تلك القطع الجغرافية والحدودية كانت من أبشع الجرائم التاريخية وعلى أرض هذه الجريمة.. كانت الجريمة الأبشع في التاريخ كله: اغتصاب فلسطين وإنشاء إسرائيل.. ليس لسواد عيون اليهود.. ولكن وكما قال هنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، في مراسلاته الشهيرة مع الشريف حسين (أول من شق صف الأمة الاسلامية في العصر الحديث): "لن تكون هناك أبدا منطقة عربية متصلة".
* * *
تشهد سوريا الآن ما لم تشهده من قبل في تاريخها كله (على أرض سوريا الآن روسيا وأمريكا وايران واسرائيل وتركيا)، وأصل "أحزان اليوم" كلها كانت هذه الوحدة المعاقة عام 1958م، والتي كانت من أكثر الأوقات ملاءمة وقوة لإقامة "نظام سياسي" عربي ديمقراطي ثابت ومستقر وليستمر.
لكن وكما حدث في كل مكان دخله الزعيم وخرج منه وتركه يبابا.. خرج من سوريا (28 أيلول/ سبتمبر 1961) ولتدور طاحونة الانقلابات التي انتهت بالسيطرة الطائفية التامة للعلويين على الجيش وحزمة الأعصاب الحساسة في الدولة.. عبر طريق طويل مليء بالدماء والأشلاء والخراب العميم والخيانة الأعم.
لن تعود سوريا كما كانت قبلا.. لكنها لن تكون أبدا كما ينبغي لها أن تكون.