قضايا وآراء

كيف يذهب الناس إلى "القهر" باختيارهم؟

1300x600
إذا كان هذا الإنسان قد ولد "حرا ".. فلماذا يختار ويرضى بأن يسير طوعا في "عبودية وقهر" ليست من صفاته الطبيعية؟ لماذا يتحول إلى "عبد" لطاغية؟ وعلى الجانب الآخر.. كيف يعلو الطاغية على رؤوس الناس؟ ومن أين له أن يستمد قوته وسلطته التي يستمر بها في طغيانه واستبداده إذا لم يكن الناس أعطوها له بمحض إرادتهم؟!

هذه الأسئلة القديمة الجديدة وغيرها طرحها قاض ومفكر وشاعر فرنسي في القرن الـ16 اسمه "إيتين لابويسيه"، اسم لا يكاد يكون معروفا بنفس قوة أسماء مثل فولتير وروسو وكانت ولوك وميل.. ذلك أن الرجل كان قد عاش عمرا قصيرا (32 عاما).. وفي عصر أطلق عليه "العصر الفاسد" في فرنسا وقت الملك هنري الثاني (1519- 1559م) وزوجته الملكة كاترين دي ميدتشي، وفي عز الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت.. أو إن شئنا الدقة بين حركة الإصلاح والملكية.

لم يترك الرجل سوى هذا المؤلف القصير والذي هو أقرب إلى أن يكون مقالة، وهو بالفعل أسماه (مقال في العبودية المختارة) والذي يعتبر أحد أهم وأشهر النصوص السياسية في التاريخ الأوروبي.. بل ويعتبره كثير من المؤرخين أحد أهم الكتب التي مهدت للثورات في كل أوروبا، وبالطبع الثورة الفرنسية.. ويسميه البعض ميثاق عمل "المجاهد السياسي". الكتاب موجود في المكتبات باللغة العربية ترجمه وقدم له الدكتور مصطفي صفوان ونشرته الهيئة العامة للكتاب بمصر. المدهش أن لابويسيه كتب هذا النص المرعب وهو في سن الثامنة عشر، ونشره بعد وفاته صديق عمره الكاتب والمفكر "دب مونتين"، والذي عاش 30 عاما بعد وفاة لابويسيه الذي توفي عام 1562م.

في إجابته عن أسئلة البراءة والفطرة التي ذكرناها في السطور الأولى يقول: "ليس من السهولة الإجابة على هذه الظاهرة.. لأن ما يفسرها ويبررها هو عهد مبطن وخفي وعميق وقديم يربط بين الحاكم والمحكوم.. الأول يرى في الشعب مرآة لكماله.. والثاني يرى في الطاغية مثالا يكمل به نقصانه!". ويناقش لابويسيه جانبا طبيعيا وفطريا في طبيعة الإنسان (الذي لا زال يشعر بإنسانيته) وهو الجانب المتعلق بحب الحرية وكيف يتخلى عنها فيقول: "الحرية شيء طبيعي ونحن لا نولد أحراراً فقط.. بل نحن أيضاً مفطورون على حب الحرية والذود عنها.. وطالما بقي بالإنسان أثر من الطبيعة الانسانية.. فهو يقيناً لا ينساق إلى العبودية إلا بواسطة أحد سبيلين: إما مكروها أو مخدوعا". وبهذا التشخيص الدقيق يكون لابويسيه قد لمس العصب العاري في ثنائية الطغيان والقهر والاستعباد: الإكراه والخداع.. واللذين يمتدان بطول وعرض والتاريخ الإنساني.

الإكراه يكاد يكون مفهوما نوعا ما.. أما الخداع فهو غريب وغير مفهوم.. إذ كيف يُخدع شعب بأكمله إلا إذا كان هذا الشعب هو الذي يخدع نفسه أساسا؟!.. وغريزة خداع النفس أحد غرائز الانسان التي يدافع يها عن عجزه وضعفه.. وفي حقيقة الأمر هناك شعوب كثيرة استمرأت عبوديتها.. ماضياً وحاضراً، ووصل الخوف فيها إلى درجة الاستلاب.. وما فقدته في الحقيقة كان أكثر من حريتها..

وفي وصف بليغ يقول لابويسيه: إنها لم "تخسر" حريتها فقط.. بل "كسبت" عبوديتها!!.. فهل يمكن أن تعد "العبودية" أحد مكاسب البشر؟ وكيف يتعايش الناس مع هذه "العبودية"؟ تنحصر إجابة لابويسيه في القول: "إن السبب الرئيسى الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو المناخ الذي ينشأون فيه". وضرب مثلا بالفيلسوف الذي أحضر كلبين رضعا من ثدي واحد.. الأول تمت تربيته في البيوت والمطابخ، والثاني في البراري والوديان.. ثم أحضرهما ووضع أمامهما طبقا من الحساء وأرنب! فذهب الأول نحو الطبق وجرى الثاني نحو الأرنب.. والمعنى واضح ومفهوم.. وكما بدأت ستبقى.

ويضف أيضا سببا آخر: إن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى "جبناء مخنثين" يخافون حتى من ظلهم. هو الخوف إذن.. "المنطقة الأكثر ضعفا في النفس البشرية"، كما يقول لابويسيه الذي لم تكن الدولة في عصره قد تحولت إلى "تنين" توماس هوبز الشهير.. الدولة التنين (الليفياتان) التي تملكك في قبضة يديها من ساعة الميلاد إلى ساعة الممات من خلال أجهزة وأدوات بالغة التعقيد والتركيب والسيطرة والعنف والمراقبه والإخضاع.. حتى ساد الخوف والخنوع وتحجرت الهمم.. وأصبح الناس هم "حراس عبوديتهم"، وأصبحت الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيها!

والمرعب في الموضوع هو أن يذهب المقهورون إلى آخر الطريق ويتحولوا إلى "جموع السعداء" في خدمة "قاهرهم"، كما يقول الكاتب، بل كيف يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة وسلوك وحياة بأكملها تسود المجتمع بأكمله، فيتلبس الناس في أدق تفاصيل حياتهم فيستسلمون راضين بل وسعداء للقهر.. ولا يجدون أمنهم وسلامتهم إلا في الخضوع والخنوع والاستكانة والإهانه والذل والنفاق والرشوة في تصريف حاجاتهم الحياتية اليومية، ويخضعون لسطوة "الطواغيت الصغيرة" المستنسخة في كل مكان.

الطاغية إذن يستقوي بخنوع "الجموع السعيدة".. يبتهج بانقيادهم.. وينتشي بخضوعهم.. فيوظفهم كأشياء وقوالب وأدوات معدة لخدمة هوسه الشخصي وإحساسه المفرط بالعظمة.. هذا الطاغية فقد كل شعور طبيعي يربطه بالإنسانية.. ثمة شيء أسود يكمن في أعمق أعماق فؤاده يسيطر عليه.. ويقولون إن فقده لهذا الشعور الطبيعي شرط ضروري لممارسة الطغيان المطلق، فهو ببساطه لم يعد "إنسانا".

لقد تم التخلي عن الحرية (مرة واحدة) من قبل الناس.. وبقيت بعد ذلك كذلك.