مقالات مختارة

عبثية الالتفاف على مطالب الناس

1300x600

في بداية كانون الثاني/يناير 1984 خرجت مظاهرات صاخبة في معظم أرجاء تونس احتجاجا على رفع أسعار الخبز فسقط قتلى وجرحى وأعلنت حالة الطوارئ ومنع الجولان قبل أن يتدخل الرئيس الحبيب بورقيبة فيلغي تلك الزيادات مرة واحدة فتحوّلت مظاهرات الغضب إلى مظاهرات فرح تهتف باسم الرئيس.


لم يكن ذلك القرار سهلا بالنسبة لرجل قضى طول عمره يتحدث عن «هيبة الدولة» التي من مقوماتها الأساسية عدم الخضوع لضغط الشارع في كل شاردة وواردة لأنه مربك لعمل أي حكومة تريد أن تبني سياساتها على خطط مدروسة وتوازنات مالية دقيقة وليس على التناغم الدائم مع ما يريده الناس.


ومع أن بورقيبة بلغ وقتها من العمر عتيا ولم يعد يحكم قبضته على الحكم كما كان دائما إلا أنه لم يفقد حسه السياسي القادر على التقييم والتمييز في منعرجات تاريخية حرجة فيعرف متى ينحني للريح ومتى عليه أن يعاند.

 

هذه الخصلة التي تكاد تكون فطرية عند زعماء تاريخيين عظام تكاد تنعدم تماما في عالم اليوم، بل ساد بديلا عنها فكر يقوم على أنه كلما صمدتَ في وجه ضغط الشارع وعرفتَ كيف تقمعه أو تميّعه أو تشوهه أو تحرفه عن أهدافه كانت لك الغلبة.. لكنها غلبة زائفة ومؤقتة ومكلفة في الغالب.


الجزائر آخر مثال، أجريت الانتخابات وصعد رئيس جديد ولكن من يضمن أن هذا فعلا هو الحل، وإن كان كذلك من يضمن نجاعته وبالأخص ديمومته.

 

منذ شباط/فبراير الماضي والآلاف المؤلفة من أبناء الشعب الجزائري تخرج كل جمعة هاتفة بشعارات تروم القطع الكامل مع الماضي وسنوات الحكم البائسة للرئيس بوتفليقة (يتنحاو قاع) لكن الاستجابة لموجة الغضب هذه السلمية والمنظمة والراقية تؤكد أن منهج التفكير الملتوي ما زال هو السائد.

 

ومن الحديث عن إرادة الشعب وضرورة احترامها مالت السلطة الماسكة بزمام الأمور إلى ما اعتبرته المسلك الدستوري الأنسب متجهة إلى انتخاب رئيس جديد لم ير فيه الحراك الشعبي المستمر سوى امتداد لحكم بوتفليقة بل لحكم «العصابة» نفسها، كما يسمونها هناك.

هذا العقم في التجاوب مع مطالب الناس ومحاولة إجهاضها والالتفاف عليها لن يقود إلى شيء أبدا ولنا في ما جرى في سوريا وليبيا واليمن أكثر من درس لقوم يعقلون

العراق مثال آخر، وإن كان يسجل للجزائر على عكسه أنها لم تطلق النار على أبنائها المسالمين ولم تشأ أن تحسمها بالدم كما تحاول بغداد وما زالت.

 

في العراق سئم الناس، بكل شرائحهم لا سيما الشباب منهم، من فساد واستبداد الطبقة الحاكمة وارتهان قرارها لطهران وللميليشيات المسلحة الموالية لها مطالبين برحيلهم جميعا (شلع قلع) لكن هذه الطبقة لم ترد إلا بالبحث الدؤوب عن مخرج لها قبل أن يكون مخرجا للبلاد ومستقبله.

 

غرقت الأمور الآن في الخوض في مواصفات البحث عن رئيس الوزراء جديد وإعادة البحث عن الكتلة البرلمانية الأكبر التي يحق لها تسميته مع أن طموح العراقيين أعمق وأشمل.


لبنان هو الآخر، شباب فاض به الكيل من الطائفية، رداء الفساد المفضل وعنوان المحاصصة الأكثر بؤسا، غير أن ادعاء التجاوب مع مطالبه إنما يتم عبر الغرْف من نفس الأواني والتوزيع على نفس الصحون مع الحفاظ على الطعام نفسه ببهاراته الثابتة!! أسوأ مما سبق محاولات إقحام عناصر طائفية لإفساد المظاهرات والاعتصامات.

 

إنها ذات العقلية التي تكابر وتعاند ساعية إلى إيجاد المخارج الملتوية التي أدخلت مطالب الناس المشروعة إلى نفق تسمية رئيس الوزراء والاستشارات النيابية بشأنه وموعد انطلاقها مع نشاط محموم لبورصة الأسماء بين سعد الحريري وآخرين.


هذا العقم في التجاوب مع مطالب الناس ومحاولة إجهاضها والالتفاف عليها لن يقود إلى شيء أبدا ولنا في ما جرى في سوريا وليبيا واليمن أكثر من درس لقوم يعقلون. لنتخيل للحظة أن بشار الأسد انتقل فور بداية الأحداث إلى درعا فزار عائلة الأطفال الذين باعتقالهم اندلعت الثورة فواساهم وجبر بخواطرهم ثم عزل المسؤولين الأمنيين والإداريين المسؤولين عن التجاوز الذي تم بحقهم، ما الذي كان يمكن أن يحصل؟ لربما خرجت الجماهير هاتفة بـ«الأسد إلى الأبد» عوض وصول الأمور إلى «الأسد أو نحرق البلد» فبقي الأسد ودُمر البلد الذي بات مرتعا لتدخل الدول قاطبة والتنظيمات الإرهابية الحقيقية والمشبوهة.

 

قس على ذلك بالنسبة لليبيا واليمن، أطاحت شهوة البقاء في السلطة إلى الأبد بالمعبد على رؤوس الجميع، ولو أن علي عبد الله صالح حاول نسبيا التفاعل مع المبادرة الخليجية قبل أن يركب رأسه من جديد، أما معمر القذافي فلم يتخيّل للحظة أن هناك ليبيا واحدا يمكن أن يقف في وجهه ولهذا كان يصرخ مستغربا مما كان يفعله به ملاحقوه الذين قضوا عليه ومثّلوا بجثته بطريقة همجية.


صحيح أن الفراغ في السلطة مخيف وقد يؤدي إلى الفوضى ولكن من يعاند التغيير الجذري الآن في الجزائر والعراق ولبنان، رغم اختلاف السياقات والتكلفة، إنما يمعنون في المزيد من تسلق الشجرة عوض البحث عن كيفية النزول منها. هذا مخيف لأنه يعني أن السقوط من هذه الشجرة سيكون أقوى وأكثر إيلاما.. ولو بعد فترة قد تطول أو تقصر.

عن صحيفة القدس العربي