ما عرفته بعض شعوبنا العربية منذ ثمانية أعوام مما اصطلح عليه بـ"الربيع العربي"، من أحداث ومن تداخل الخارجي بالداخلي، ومن انكشاف لحقائق لم تكن معلومة لعموم الناس، جعل الكثيرين يصحون على أسئلة حول "
الثورة" و"الديمقراطية" و"السيادة الوطنية"، وحول مدى تأثر الثورات الوطنية بوجود كيان محتل في قلب الأمة العربية؛ لا يكف عن التآمر على سيادة شعوبنا وعلى أمنها وهويتها وجغرافيتها.
أحداث مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن منذ 2011، وأحداث الجزائر والسودان اليوم، كلها تدفع نحو طرح أسئلة حول الثورة والديمقراطية والسيادة الوطنية والمقاومة.
1: مقومات الثورة
أعتقد أننا نحتاج وعيا قادرا على فصل "الدوائر" وعلى "ربطها" في آن.. نحتاج وعيا مرنا غير "متصلب".. مرونة لا تنفي "المبدئية" ولا تلغي "الوضوح".
الثورة ليست فقط حالة غضَب تنتهي بقلب جهاز حكم بما هو شخوص وأدوات، الثورة رؤية، ومسار، ورموز، وقيم جديدة، وعلاقات جديدة، وقدرة متبصرة على القطع الهادئ العميق مع ماض سيئ، من أجل مستقبل أرقى وأنقى، ومن أجل حياة جديرة بأن تُحيا.
من معاني الثورة، تغير النظام الاجتماعي باتجاه عدالة أقل حِيفا وطبقية، وتغير النظام السياسي باتجاه ديمقراطية عميقة لا ديمقراطية شكلية، وتغير التعبيرات الفنية والثقافية والقيمية نحو ما هو إنساني جمالي، وتغير علاقة الدولة بغيرها من الدول، لتكون علاقات نِدّية متحررة من التبعية والمهزومية والمغلوبية.
الثورة تهدف في النهاية؛ إلى تحرير الإنسان بما هو إرادة وشوق وفكر وتعبير وفعل، كما تهدف إلى تحرير الوطن في قراره السيادي سياسة وثقافة وتشريعا، وهذا يظل مشروطا بتحقيق شروط السيادة، إذ لا سيادة لمجتمعات تستورد ما تستهلك من أغذية وملابس وأدوية وتجهيزات وآلات ومعدات، وتقترض من البنوك الأجنبية لإنشاء مشاريع أو لدفع مرتبات الموظفين.. لا سيادة لمجتمعات لم تحقق اكتفاءها الذاتي، ولم تتحرر من الحاجة لغيرها "ومن يملك قوتَك يملك أن يقودك ومن يُطعمك يُلجمك".
المجتمعات التي تتوقف مشاريعها وأجور موظفيها على القروض الخارجية وعلى المنح والهبات؛ لا يمكن أن تكون ذات قرار سيادي، سواء في سياسة أو في ثقافة أو حتى في تشريعات، بل وحتى في تأويلاتها لمعتقداتها.
الثورة التي تنتهي إلى بناء نظام ديمقراطي يتحرر فيه المواطن ويتحرر فيه القرار السيادي؛ هي الثورة التي ستنتهي إلى بناء وطن "مقاوم" للضغوط الأجنبية ولإملاءات الدوائر الاستعمارية. الأوطان المتحررة من "الحاجة" هي الأوطان المتحررة من الإملاءات ومن التبعية، وهي الأوطان التي يقدر فيها مسؤولوها ومواطنوها على رفض أي تدخل خارجي في شؤونهم الوطنية، وفي كيفيات تصريف شؤونهم.
الثورات ليست حدثا معجزا يتنزل جاهزا، إنما هي حالة تشكل عبر دُربة ثورية تحتاج مكابدة وجهدا وصبرا، وتحتاج تجريبا ومراوحة بين مدّ وجزر أو كرّ وفرّ، دون "جبن" ودون "تهور". وفي ذلك تحتاج الثورات عقولا مُنظّرة ومطلعة على الواقع بتفاصيله، وعلى الخفايا التي تدار وتحاك في غرف الظلام. فليس الثوري من يُبدي شجاعة دائمة، ولكنه من يظل متنبها دائما، فلا يُستغفل ولا يُحاط به .
في الحالة التونسية، يتساءل مثقفون ومحللون عن ثورة كيف لم تقدر على حسم موقفها من النظام القديم، ولم تقطع مع الدوائر الخارجية التي كانت داعمة للاستبداد؟
هذه الأسئلة تبدو منطقية نظريا، إذ من معاني الثورة القطع مع الماضي السيئ، ولكننا حين ننظر نظرة واقعية نكتشف أن الواقع ليس ما نشتهي، إنما هو ما يتبدى لنا بكل عناصره، ولا نملك قبالته إلا التفاعل معه ببعض آلياته وببعض آلياتنا؛ التي هي من أحلام الثورة.
2: الثورة سيادة وطنية
هل كان ممكنا لشعوب الربيع العربي قطع العلاقات مع فرنسا وأمريكا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا (مثلا) لكونها دولا كانت في علاقة مع النظام الاستبدادي؟ وهل يمكن إعلان عدم الالتزام بكل المواثيق والمعاهدات مع تلك الدول؛ عقابا لها على وقوفها ضد حرية شعوبنا وكرامتها؟ وهل كان ممكنا غلق سفارات تلك الدول ورفض مقابلة سفرائها؟
الإجابات الثورية الفورية تقول "نعم"، ولكن الواقع العملي يقول إننا دول لم تخرج عن كونها "تابعة" بالواقع والحقيقة لا بالمشيئة والاختيار. فنحن في دول مثقلة بالديون، وعليها أعباء عقود من التخلف والفقر والبطالة والعجز، حتى وإن كانت مُعبّأة بالأشواق
التحررية وروحية التمرد والمقاومة.
سيكون من السهل على أي متابع من موقع نظري أن يتهم الساسة الذين هم في الحكم؛ بالضعف أو حتى بـ"الخيانة" و"العمالة"، لكونهم لم يخرجوا من مدار الدول الاستعمارية، ولكونهم يتلقون دعما أو مشورة من تلك الدول، ولكونهم يلتقون سفراءها.
بل أكثر من ذلك، سيجد آخرون سهولة في اتهام الساسة الذين هم في الحكم بكونهم لا يدعمون
المقاومة ضد الكيان الصهيوني. والسؤال هنا: هل ننتظر منهم دعما عمليا أم سياسيا للمقاومة؟
أعتقد أن ما يتوفر الآن في بلادنا العربية من حرية هو أكبر "منصة" لدعم المقاومة، حين نمارس نقدنا المسؤول للنظام السياسي وأدائه في كل المجالات، وحين نمنع ارتخاءه وضعفه حتى لا يتجرأ عليه أعداء الأمة، وينتزعون منه مواقف مهينة لشعوبنا وأمتنا ومحبطة لروحه المقاومة، وحين نفهم أن المقاومة جهد شامل في مواجهة المشاريع الاستعمارية والصهيونية، وهي مشاريع تشتغل على كل الواجهات السياسية والعلمية والثقافية والقيمية والرياضية والنفسية والأخلاقية، وهي واجهات مهمة وخطيرة، وهي مقدمات للواجهة العسكرية.
3: الثورة ومقاومة الاحتلال
الثورات العربية التي تغمرنا فيها أجواءُ الحرية؛ هي ثورات تفتح على الديمقراطية وعلى السيادة الوطنية وعلى المقاومة، حين نعي بأننا نحن الذين نذهب بمداها بقدر وعينا وصبرنا وفعلنا وحكمتنا.
حين تتحول الثورة ثقافة ووعيا، تنتج أجيالا متحررة من الخوف ومن الهزيمة ومن الكسل، أجيالا ممتلئة شوقا وكرامة وعزما وشجاعة، مؤمنة بوحدة مصير شعوب الأمة ووحدة قضاياها ومعاركها، أجيالا متعلقة بالقضايا الكبرى مترفعة عن صغائر الأمور وعن الصراعات الخاطئة.
مقاومة الاحتلال ليست مجرد شعارات ودعوات للمقاطعة، بل إنها وعي بمشاريع الاحتلال التي لا تشتغل فقط على الجغرافيا، بل تشتغل على احتلال الوعي والذائقة والقيم والعواطف وتتسرب في البرامج التربوية وفي الصورة والكلمة والإعلام والعناوين.
الشعوب التي تتحرر من الاستبداد ولا تتحرر من آثاره الثقافية والتربوية ستظل شعوبا مهددة بإعادة إنتاج الاستبداد والفساد، بما يجعلها شعوبا مهيأةً لأن تكون مجالا للاختراق والتطويع والتوجيه، بعد أن أضاعت بوصلتها ونسيت قضاياها الكبرى.
المتابع لحراك شعوب "الربيع العربي" وحراك شعبي السودان والجزائر؛ يلحظ أن العنوان الفلسطيني كان حاضرا وتلهج به الجماهير في الشوارع والساحات. غير أن هذه العواطف الجياشة غير كافية، فهي تحتاج إلى أن تتحول وعيا واقتدارا