الشغل الشاغل لجهاز الدولة المصرية هو تمكين السيسي من الحكم لأطول مدة، قد تصل لمدى الحياة، ويبدو أنه جهاز معزول عما يجري حوله من تطورات متسارعة ومفاجئة، ويعاني من ضيق أفق، وينتابه خوف من المستقبل، وهو واقع في أسر الجباية وتحصيل المال؛ ويتصور أن المبالغة في إهانة المواطنين تحميه، والتعامل معهم على قواعد «التأديب والانتقام والتضييق» تقويه، وله همة بالغة في فرض الإتاوات وطلب القروض والمساعدات والمنح، التي انهمرت عليه من السعودية ودول الخليج، ولحقها قرض «صندوق النقد الدولي»؛ بشروطه وشروره، فضلا عن المعونة الأمريكية المقررة منذ توقيع «اتفاقية السلام» المصرية الصهيونية عام 1978، وتقررت للدولة الصهيونية ومصر معا.
تحولت المعونة الأمريكية لمنح لا ترد عام 1982؛ بواقع 3 مليارات دولار للدولة الصهيونية، و2.1 مليار دولار لمصر، واقتصر نصيب مصر على 815 مليون دولار للشق الاقتصادي، و1.3 مليار دولار للشق العسكري، وكلها لا تتجاوز 2% من إجمالي الدخل القومي المصري وقتها، وتقلص الشق الاقتصادي وكاد أن يتلاشى، واستمر الشق العسكري؛ لضرورته في خدمة الأهداف الاستراتيجية الصهيوأمريكية؛ حيث يسمح للطيران الحربي الأمريكي بالتحليق في سماء مصر، وللبوارج الأمريكية في عبور قناة السويس، بجانب ما ترتب عليه من بيع أسلحة ومعدات عسكرية للقوات المسلحة المصرية، واستخدامه في الضغط وتحويل السياسة المصرية لرديف خادم للمصالح الاستراتيجية والعسكرية الصهيوأمريكية.
استقر الشق العسكري في 2014 عند مستوى 1.3 مليار دولار سنويا، وتم خفض الشق الاقتصادي بواقع 50 مليون دولار في السنة، حتى تثبيته عند حد 200 مليون دولار، وقد كان 815 مليون دولار سنويا. وعقب ثورة يناير 2011 حصلت مصر على مساعدات وقروض ومنح سعودية وخليجية تكفي لتخفيف وطأة الديون، وتمكينها من هيكلة اقتصادها، واستغلال ثرواتها الطبيعية والمنجمية، ووقف نهبها الممنهج لحساب أباطرة السياسة والمال والسمسرة والاحتكارات والفاسدين والمفسدين، ومن المفترض توظيف هذه الثروات في التنمية الشاملة، وتحقيق العدالة الاجتماعية والكفاية المعيشية والكرامة الإنسانية، وكفالة القوة والمنعة للدولة.
وأثقل تبديد هذه الأموال كاهل الشعب والدولة، وأضعف قدرتهما على السداد، والخوف من تكرار تجربة الخديوي اسماعيل؛ ودور «صندوق الدين»، ودعوة الدائنين في زمانه لإعلان إفلاس «ولاية مصر».. وانتهى ذلك بغزوها واحتلال بريطانيا لها، وبدلا من انشغال الدولة الراهن بهذه الهموم، أُقيمت مواكب ومهرجانات النفاق؛ المهندسة أمنيا ورئاسيا؛ تدعو لتعديل الدستور؛ فقط من أجل تمديد الرئاسة حتى عام 2030.
ولم تكن المعالجات الإقليمية والدولية أفضل حالا، فبعد قرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، ثم اعترافه الباطل بسيادة الدولة الصهيونية على الجولان، بجانب اللغط المثار حول «صفقة القرن»؛ لم يحرك أحد ساكنا، واكتفى السيسي مثل أغلب ملوك ورؤساء العرب ببيانات وتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، فصدق فيه وفيهم قول الشاعر «عمرو بن معد يكرب الزبيدي»، وكان شاعرا وفارسا؛ لُقِبَّ بفارس العرب:
{لقد أسمعت لو ناديت حيـا … ولكن لا حياة لمـن تنـادي}
{ولو نارٌ نفخت بها أضاءت … ولكن أنت تنفخ في الرمـاد}
{أريد حياته ويريـد قتلي … عذيرك من خليلك من مُراد}
وأضحى الدور الرسمي المصري باهتا بلا ملامح أو قسمات، وبعد كل ما فعله ترامب بالنسبة للقدس والجولان ولما يسمى بـ«صفقة القرن»، استجاب السيسي لدعوته وذهب إلى واشنطن على عجل، فقوبل بترحيب فاتر وتحذير صارم؛ وُصِف فيه السلوك الرسمي المصري بالتلاعب في ملفين توليهما وجهة النظر الأمريكية اهتماما خاصا؛ ملف التسليح، وملف العمل الأهلي وقانون الجمعيات المُنَظِّمة له، وكان الملفان محور حديث ترامب والسيسي، وفحوى رسالة من وزير الخارجية مايك بومبيو، ومفادها القدرة على اتخاذ إجراءات تضييق وتوقيع عقاب على حكومة السيسي، إذا استمر فيما وُصِف بـ«التلاعب» مع الملفين، والتلويح بتعليق أجزاء من المعونة؛ بشقيها الاقتصادي والعسكري، وتأجيل إرسال قطع غيار الأسلحة الأمريكية لدى الجيش المصري، وتعطيل شحنات باقي طائرات «رافال» الفرنسية، التي تستأثر أمريكا بإضافة مكونات تقنية إليها، وهي إضافات لم تُسلم لمصر رغم مرور نحو عام ونصف العام على الموعد المحدد للتسليم.
وبالنسبة للتسليح، يتمسك ترامب بحقه الحصري في توريد المعدات العسكرية لمصر، وأعلن اعتراضه على استيرادها أسلحة روسية، ورفضه شراء طائرات «سوخوي-35»، بعد تعاقد حكومتها على شراء 20 طائرة نهاية عام 2018؛ على أن تُوَرَّد خلال عامي 2021 و2022، مقابل 2 مليار و250 مليون دولار، وهي الصفقة الأضخم إلى دولة يصِفها الإعلام الأمريكي بأنها مثقلة بالديون والقروض الخارجية والداخلية.
ومسألة العلاقة الثنائية، بجانب مسائل أخرى؛ تعرّض ترامب بسببها لضغوط الكونغرس. وكانت مناقشة ملف الحريات وحقوق الإنسان هي الأصعب؛ منذ تلك التي أثيرت في جلسات صيف 2017 بشأن قضية حقوق الإنسان، وانتهت بتعليق جزء من المعونة. وقال وزير الخارجية بومبيو في جلسة استماع لجنة الموازنة بمجلس الشيوخ؛ الثلاثاء قبل الماضي.
وبالنسبة لقانون الجمعيات الأهلية، ترى الدوائر الأمريكية على تعددها، بما فيها البيت الأبيض أنّ هناك «تلاعبا» بها وبدوائر غربية أخرى، وتَرَدُّد أمام تعديل القانون الحالي المثير للجدل، وإصدار قانون جديد تماما بدلا منه. وطرحت هذه المسألة خلال الزيارة، التي أعقبت نشر تقرير الخارجية الأمريكية عن الحقوق والحريات في مصر، وبطء تعديل القانون. رغم مرور 4 أشهر ونصف الشهر على تعهد الرئاسة بتعديله خلال شهر، ولم تظهر أي مسودة رسمية للتعديل حتى الآن.
وتدعي واشنطن أنها متأكدة من «مماطلة» حكومة السيسي، بعد تفاهم عام 2017 بشأن وجوب توفيق أوضاع المنظمات المصرية المدعومة أمريكيا أولا، قبل تلقيها أي دعم سواء من وزارة التضامن الاجتماعي المصرية أو أي وزارات أخرى، وهذا لم يعد له أي محل لتعطيل صدور القانون، وعدم إنجاز لائحته التنفيذية، وقيام حكومة السيسي بتمرير تمويل المشروعات المخففة للأعباء عنها بشكل مباشر.
وعلقت شخصيات نافذة في الدوائر الأمريكية؛ جمهورية وديمقراطية، على التعهّد بتعديل قانون الجمعيات الأهلية، وأقرت بوجوب السماح لمنظمات المجتمع المدني الأمريكية بممارسة نشاطها؛ واعتبارها جمعيات أجنبية عاملة في المجال الأهلي؛ التنموي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، من غير قيود أمنية أو مخابراتية. على أن يتم التنسيق بين واشنطن والقاهرة بشأن التعامل مع جهات التمويل الأمريكية، وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل كانون الثاني/يناير 2011، وقبل إثارة قضية التمويل الأجنبي، وكان السيسي وقتها مديرا للمخابرات الحربية، ومشرفا على إعداد التقرير الذي اتهم منظمات أمريكية بعينها بالتحريض ضد استقرار مصر.
من جهة أخرى، تم تأكيد عدم دقة التقرير الذي بثته وكالة «رويترز» عن انسحاب مصر من مشاورات ما يُعرف بـ«الناتو العربي»، ونفي صدور مثل هذا القرار. والحديث عن خطوة أو قرار الانسحاب ليس صحيحا بالمرة!!.
عن صحيفة القدس العربي