ملفات

الكتاب الذي كان يجب أن يهز الجزائر!

اتهم أطراف في السلطة بالتورط في الاغتيالات التي طالت صحفيين وكتابا بعد وقف انتخابات 1991

الكتاب: "سعيد مقبل: الموت حرفيا.. حورات" 
المؤلف: مونيكا بورغمان
الناشر: دار "فرانز فانون" ـ الجزائر 2016


تعود ذكرى الانقلاب العسكري لـ11 كانون الثاني (يناير) 1992 في الجزائر على أول انتخابات تعددية حرة، عرفتها البلاد، وتعود معها الأسئلة، لعل أولها وآخرها: هل تعلمت البلاد وشعبها وخاصة نخبها دروس ذلك الانقلاب، الذي جر البلاد إلى حرب أهلية طالت لنحو عشرية سوداء، كلفتها ربع مليون قتيل ودمارا ماديا ومعنويا، مازالت تداعياته تلقي بظلالها على البلاد، التي لازالت تدور في حلقة مفرغة أو "تتقدم إلى الوراء" بنفس الأعراض المرَضية: احتقان سياسي، أزمة الشرعية، "متلازمة الجيش"، وفوق ذلك رئيس مريض مقعد لم يخاطب شعبه منذ العام 2012، جاء به العسكر للحكم في 1999، ووصل للسلطة بنية معلنة أن يموت رئيسا، ويتم الإعداد فيما يبدو لترشيحه لولاية خامسة في الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع العام الجاري 2019.

كثير من الكتابات صدرت عن ذلك الانقلاب، وتلك الفترة، لكنني أزعم أن أهم كتاب يمكن أن يكون مرجعاً، حتى لاستخلاص الدروس من تلك المرحلة، هو كتاب "سعيد مقبل: الموت حرفيا"، وهو مجموعة حوارات بالفرنسية أجرتها الصحافية الألمانية مونيكا بورغمان مع الكاتب الصحافي الجزائري سعيد مقبل، رئيس تحرير صحيفة "لوماتان" الناطقة بالفرنسية، قبل سنة من اغتياله برصاصتين في الرأس في مطعم شعبي بالجزائر العاصمة في 3 كانون الأول (ديسمبر) 1994.

سلط الضوء على الاغتيالات

اللافت أن الكتاب لم يصدر إلا في 2008 عن دار فرنسية صغيرة "تيرايدير" ودار "الجديد"، ولن يُنشر في الجزائر إلا في 2016 عن دار "فرانز فانون". وقد بدا غريبا (لي على الأقل!) كيف لم "يهز" هذا الكتاب/ القنبلة الجزائر، ولم يثر نقاشا ولا دعوات لاستخلاص الدروس والعبر، وذلك لما جاء فيه من اتهامات واعترافات مهمة من الكاتب الراحل، وخاصة فيما يتعلق بالاغتيالات، التي طالت الكثير من الكتاب والصحافيين والمثقفين الجزائريين، وأولهم صديقه الطاهر جاووت، الذي كان أول الصحافيين المغتالين، في 26 أيار (مايو) 1993، برصاصتين في الرأس في العاصمة، تم اتهام إرهابيين من الجماعات الإسلامية المسلحة بالوقوف وراءها.

سعيد مقبل كشف للصحافية الألمانية، أنه بعد الصدمة جاءت الأسئلة، وأنه شكل مع أصدقاء لجنة لتحري الحقيقة في اغتيال جاووت، وقد بدت الرواية الرسمية لاغتياله "متهافتة". ويروي مقبل كيف تلقى بسبب اللجنة تهديدات، بل وتم اغتيال أحد أعضائها البروفيسور محفوظ بوسبسي، في اليوم الموالي لنشر قائمة أعضاء اللجنة. و"بعد خمس دقائق من اغتياله جاءته الشرطة تعرض عليه الحراسة"!

إرهاب مافيا

هذا الاغتيال واغتيالات أخرى طالت صحافيين ومثقفين آخرين، دفعت سعيد مقبل إلى الشك أنه إلى جانب إرهاب الجماعات الإسلامية، هناك إرهاب "مافيا" كما وصفها، تقوم وتحت تسويق "الإرهاب الإسلاموي" بما أسماه "إرهابا بيداغوجيا" يستهدف نخبة علمانية "جمهورية" معادية للإسلاميين، بغرض "الصدمة والترويع"، بل وذهب أبعد ووجه أصابع الشكوك والاتهام لمدير المخابرات، حينها، الجنرال توفيق. وذهب أكثر من هذا وقال للصحافية الألمانية إنه إذا اغتيل فإنه ليس "الإرهابيون الإسلاميون" هم من سيغتالوه!

واللافت أن مقبل، رفض مغادرة الجزائر، مثل زوجته الفرنسية، رغم أنه كان يعرف أن حياته مهددة وأن مصيره سيكون القتل.

وقد طالب ابنه نزيم مقبل قبل سنوات بضرورة فتح تحقيق لكشف كل الحقائق في اغتيال والده، مشيرا باستغراب إلى الرواية الرسمية لاغتياله التي تتهم "إرهابي إسلاموي بقرط أذن وشعر بذيل حصان، سيتم القضاء عليه فيما بعد"!

مفارقات الانقلاب

والمثير أن الكاتبة الألمانية تشير في حوارها إلى مقبل "لست وحدك من يعتقد هذا فخليدة مسعودي هي كذلك تحمل الجنرال توفيق المسؤولية" (ص 89). وخليدة مسعودي ـ تومي هي المُعارِضة العلمانية التي اشتهرت بمعاداة الإسلاميين في حزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، لكنها ستتحول بعدها لأشد الموالين للسلطة، ويعينها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لسنوات وزيرة للثقافة!

والمفارقة أن سعيد مقبل يشير في حواراته إلى أنه كانت هناك رغبة لـ"التضحية" بما يسمون بـ"الجمهوريين الاستئصاليين"، الذين تحالفوا مع العسكر وانقلابهم بزعم انقاذ "الجمهورية" من الظلامية ومنع حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" من الفوز بالانتخابات.

واللافت هنا أن مقبل ورغم موقفه الداعم للانقلاب والمعادي لـ"الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، إلا أنه يكشف في الكتاب الجانب المبدئي الإنساني فيه، حيث ساهم بسبب علاقته الوطيدة برئيس الحكومة آنذاك سيد أحمد غزالي في إطلاق الكثير من مناضلي "الجبهة" الشباب، من عائلات يعرفها، والذين اعتقلوا ظلما في محتشدات الصحراء.

وحين تسأله الصحافية الألمانية أن شخصا في صحيفة "لانسيون" (كانت معارضة للانقلاب والاستئصال) قال لها من مصلحته في اغتيال الطاهر جاووت هم "الجمهوريون"، يرد مقبل أن نسبة 90 بالمئة من الجمهوريين من المفرنسين، واللافت أنه يعبر عن تفهمه لموقف ووعي حزب جبهة القوى الاشتراكية العلماني، الذي كان يرأسه الراحل حسين آيت أحمد، والذي رفض الانقلاب العكسري رغم موقفه المعادي للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وخروجه في مظاهرة ضخمة ليعبر عن رفضه لـ "الدولة الدينية والدولة البوليسية". لكن آيت أحمد تمسك باستمرار المسار الانتخابي، ورفض عرض قائد الانقلاب، آنذاك، وزير الدفاع آنذاك الجنرال خالد نزار، برئاسة البلاد، وحذره من مخاطر ومآلات الانقلاب.

واللافت أن آيت أحمد "الديمقراطي" سيكون وبسبب موقفه الرافض للانقلاب، والداعي لحقن الدماء، وإيجاد حل سياسي سريع، هدفا لتهجمات، بعضها غير أخلاقية حتى في صحيفة "لوماتان"، التي ساندت الانقلاب، والتي كان يرأس تحريرها سعيد مقبل، واشتهر بعموده اليومي فيها "مسمار جحا".  

المفارقة أن السلطة الجزائرية ستنقلب على الصحيفة نفسها بعدها بسنوات، وتدفعها نحو الإفلاس والإغلاق، وسيتم سجن مديرها محمد بن تشكيو، الذي تحول إلى معارض للنظام، وألف كتابا بعنوان "بوتفليقة.. دجل جزائري" تضمن هجوما ضد الرئيس بوتفليقة، اعتبرته السلطة غير أخلاقي.

اللافت كذلك أن الصحيفة وقبل الانقلاب عليها بسنوات قليلة، لعبت مع الصحف نفسها (ناطقة كلها بالفرنسية) التي دعمت انقلاب 1992، دورا انقلابيا آخر، بإيعاز من "أصحاب القرار" في الجيش والمخابرات، في الإطاحة بالرئيس اليمين زروال في 1998، عبر حملة إعلامية، تضمنت جوانب غير أخلاقية، وضرب تحت الحزام استهدفت مستشاره قائد المخابرات الجزائرية الأسبق الجنرال محمد بتشين.  

كتاب "سعيد مقبل: الموت حرفيا"، جدير بالقراءة وتعلم الدروس في جزائر لا يبدو للأسف أنها تعلمت الدروس، فمؤخرا فقط عاد التهويل السياسي والإعلامي من الصحف الانقلابية نفسها لفزاعة "الإرهاب" مع اقتراب الانتخابات الرئاسية. وتم الترويج لزعم مسؤول في وزارة الداخلية أنه تم القبض على 130 إرهابيا مسلحاً من سوريا، وفلسطين واليمن على حدودها الجنوبية ضمن مؤامرة تقف وراءها عواصم عربية وتستهدف الجزائر. المفارقة أن المسؤول نفسه قال إن الجزائر قررت بسبب ذلك منع دخول المهاجرين العرب، وأنه تم طرد هؤلاء الإرهابيين المندسين كلاجئين من حيث جاؤوا من النيجر، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن هؤلاء لاجئون تقطعت بهم السبل، وعبرت عن قلقها على مصيرهم.

 

*كاتب جزائري

 

اقرأ أيضا: الجزائر: من الحزب الواحد إلى انتخابات فاز بها الإسلاميون (1من2)

 

اقرأ أيضا: الجيش يقصي جبهة الإنقاذ ويعود بالجزائر إلى المربع صفر (2من2)




*كاتب وإعلامي جزائري