ليس مهما أن يكون الخرتيت كائنا خرافيا أم واقعيا، لكن الإجماع على أن الخرتيت هو المُبتلى بقصر النظر والغباء والبلادة. إنه كائن مُتلبد الإحساس، عديم الذوق والفكر، لا يشعر بمن حوله، ولا يشعر أصلا بأنه كائن قميء، ووضاعته مثيرة للاشمئزاز.
رغم أن الخراتيت كائنات انعزالية، لكن غضبها الجنوني المدمر لمن حولها ليس أخطر من أولئك البشر الذين انساقوا مع التيار ليصبحوا خراتيتا بمحض إرادتهم.
في مسرحية "الخراتيت"، لأوجين يونيسكو، الكاتب الروماني الأصل الفرنسي الجنسية، والأشهر في عالم المسرح العبثي، نعيش عوالم التحول من الوهم إلى الواقع الواهم، الذي يعيش عالم خرابه دون أي وازع إنساني أو أخلاقي، عالم غرائبي من العبث القبيح الذي يبرر لقبحه وبشاعته بأكثر الطرق تزييفا وتضليلا، ليستمر في كسب الفتات صغيرة كانت أم كبيرة.
إنها مدينة صغيرة تلك التي عاشت مسرحية الخراتيت أحداثها، عندما ظهرت كائنات ممسوخة أثارت الرعب في البداية وأقضت مضاجع السكان، لكن سرعان ما نكتشف في نهاية العرض أن الخراتيت التي كان يراها الناس وتزعجهم لحد الفزع؛ ليست إلا البشر أنفسهم.
يخشى الناس التغيير لنمط عبوديتهم المٌعتادة، لكنهم عندما تتراكم عليهم ألوان أخرى لموجات الصفعات التي تقودهم، تُثار بهم غريزة القطيع من الفزع والخوف من الخروج عن دوائر الشمولية. فيتكون لديهم الميل الجماعي للبقاء في عبوديتهم والجنوح إلى التفريط بحريتهم.
إنها صرخة أوجين يونيسكو ضد عداء البشر لحريتهم. فحتى ذلك الذي كان يُجمع الناس على تسميته برجل المنطق في تلك المدينة، تحول راغبا مثله مثل الآخرين لخرتيت. أصبحت أصوات أهل المدينة خوارا، ونمت على رؤوسهم قرون.. بشر يتحركون بسفالة دبقية بجلودهم السميكة وسخف أفكارهم الضيقة ومسؤولياتهم المعدومة. لقد شملت الخراتيتية كل ملامح المدينة في وهم تغييرها، ما عدا مواطن وحيد أصّر على الاحتفاظ بآدميته؛ رافضا التخرنت مثل باقي السكان.
في تلك المسرحية التي أظهرها أوجين يونيسكو للنور عام 1960، يُقال إن فكرتها كانت قد ظهرت في مذكراته عام 1940 كرد فعل على هيمنة الأفكار الفاشية والنازية، التي امتلكت أعتى القوى، ليس فقط لتحويل البشر إلى قطيع، بل لنشر نوع من الحصار الوبائي، الذي يُساهم في تحويل كينونة الناس، وطبائعهم السوية، لتصبح أكثر طواعية وقابلية للعيش في حالة من الخواء، تنمو وتهيمن عليها، وتجعلها تتحرك فقط مُنساقة بحكم غريزة القطيع.
كتب أوجين يونيسكو بمذكراته: "الشرطة خراتيت، والقضاة خراتيت، وأنت أيها الإنسان الوحيد وسط كل هذه الخراتيت. كيف يُمكن أن يُدًار العالم من قبل البشر؟ هكذا تسأل الخراتيت نفسها. اسأل نفسك أنت: هل حقيقة أن العالم قد أُدير يوما ما من قبل البشر؟".
لو قُدَر لأوجين يونيسكو أن يعيش خرتيتية أيامنا العربية اليوم، تُرى عن أي عبث تدميري كان سيكتب؟ وأي مستوى من الإبداع كان سيبدع؟