مقالات مختارة

كيف تبخرت أزمة الإمارات مع تونس؟

1300x600

فص ملح وذاب. لقد اختفت تماما بعد أسبوعين فقط من ظهورها المفاجئ، عقب إقرار الإماراتيين حظرا على سفر التونسيات. وصار بإمكان المسؤولين في كلا البلدين أن يخرجوا الآن ليقولوا للصحافيين بأن الأزمة التي تحدثتم عنها مضت في حالها وتلاشت، وأنها كانت في الأصل سرابا تبدد بالكامل، ولم يعد أمامكم إلا أن تقبلوا بما قلناه لكم اكثر من مرة من أن ما حدث بين تونس والإمارات الشهر الماضي لم يكن سوى «ظرف طارئ ومؤقت» لا غير. 

لكن ما الذي حصل صباح الخميس الماضي، حتى تنقشع ما كانت توصف بسحابة الصيف العابرة في سماء العلاقات بين تونس وأبوظبي، بمجرد أن أصدر الإماراتيون بيانهم الذي قالوا فيه «إنه في إطار العلاقة الثنائية مع الجمهورية التونسية، وحرصا على سلامة الملاحة الجوية، ودفع الأخطار والتهديدات التي يجب تلافيها على أوسع مدى، وفي ضوء التواصل الأمني المكثف والمعلومات التي تم الحصول عليها من الجانب التونسي، قررت السلطات المختصة في دولة الإمارات عودة الإجراءات المتبعة في رحلات الطيران مع تونس لما كانت عليه قبل الظرف الطارئ»؟ ولماذا اختار التونسيون الرد بسرعة على بيان وزارة الخارجية والتعاون الدولي ببيان تقني بارد صادر عن وزارة النقل التونسية تعلن فيه عن استئناف طيران الإمارات لرحلاته إلى تونس «إثر رفع السلطات الإماراتية المختصة لإجراءات المنع التي اتخذتها في حق المواطنات التونسيات». وليس ببيان سياسي ودبلوماسي تصدره وزارة الخارجية مثلا؟ 

لا أحد بالطبع كان يرجو أو يأمل بأن تستمر أو تتأبد الأزمة بين بلدين عربيين شقيقين، في وقت تتسع فيه رقعة الخلافات والمشاحنات، ولكن سرعة اشتعال ما وصفت بأزمة الطيران الإماراتي في تونس، ثم سرعة انطفائها أيضا، كانت فريدة وغريبة بعض الشيء، فمن النادر جدا في سجل الصراعات العربية أن يفض نزاع أو توتر بين دولتين عربيتين في ظرف وجيز ومن دون وساطات أو ضغوطات خارجية تفرض مخرجا أو حلا على الطرفين، ومن غير الوارد أن يتم ذلك فقط بشكل ثنائي، وبمجرد إصدار بيان يعلن التراجع عن قرار أحادي الجانب أخذه بلد في حق الآخر. ومن النادر أيضا ألا يتبع مثل ذلك البيان في حال صدوره أي اعتذار رسمي أو علني أو موقف قد يدل على حسن النوايا والجدية في طي صفحة الخلاف أو سوء الفهم. 

ومن غير المعتاد كذلك في مثل تلك الحالات أن يقبل الطرف الآخر بغلق الملف واستئناف العلاقات بشكل عادي من دون أن يحصل على تطمينات أو التزامات محددة من الجانب الآخر. فكيف نجحت الإمارات إذن في تطويق أزمة صنعتها بمحض إرادتها وبالشكل الذي خططت له، وفي الوقت الذي ارتضته مناسبا لها؟ وكيف رضيت تونس بالمقابل بإعادة الأمور لما كانت عليه من دون أن تتمسك على الأقل بالمطالبة باعتذار رسمي عن الإهانة التي لحقتها قبل أسبوعين، حين حظر الإماراتيون ركوب كل التونسيات طائراتهم تحت مبررات أمنية؟

ليس من المنطقي أن نتصور أن الإشكال الذي حصل بين تونس وأبوظبي كان مجرد خلاف تقني، أو حدث عابر لا ارتباط له بالسياق الإقليمي والدولي، أو بالطبيعة الغريبة والمتقلبة للعلاقة بين العاصمتين، خصوصا خلال السنوات السبع الأخيرة التي تلت هروب الرئيس المخلوع بن علي من تونس، وفرضت إعادة تشكيل المشهد السياسي فيها. لقد كانت عقدة الحل والربط ومازالت هي مشاركة الإسلاميين في السلطة، ولكن المشكل قد يكون بالنهاية أعمق من ذلك بكثير، إذ على افتراض أن حركة النهضة كانت تشكل خطرا أو تهديدا لمصالح الإمارات في تونس، فقد كان بإمكان الإماراتيين أن يكسبوها لصفهم بدل معاداتها، وربط أي تعاون أو تفاهم مع الجانب التونسي بالتخلص منها وإقصائها، وكان بوسعهم أيضا أن يحيدوا حزبا قويا، بدلا من أن يعتمدوا على حزب أو أحزاب واهنة وضعيفة لإسقاطه، لكن ما حصل هو أنهم لعبوا ببساطة على تناقضات التونسيين وحاولوا استثمارها في الحصول على موطئ قدم، في بلد لم تكن مصالحهم أو اهتماماتهم به معروفة في السابق.

لقد ادركوا أن مفتاح التحول السياسي هو زوال حالة العداء التاريخي بين الدولة والإسلاميين المعتدلين الممثلين في حركة النهضة، وعرفوا أيضا أن هناك قوى يسارية وجانبا كبيرا من الحرس القديم يرفض أي شكل من أشكال التقارب أو التطبيع بين الاثنين. وكل ما فعلوه هو أنهم منحوا تلك القوى دعما ماليا وإعلاميا ودبلوماسيا كانوا بحاجة له، حتى يظهروا أمام التونسيين كمدافعين عن كل ما كان يصور مكتسبات مدنية وحضارية تحققت خلال العقود الثلاثة، التي حكم فيها الرئيس الراحل بورقيبة، وصارت بنظرهم مهددة بالنكوص.

أما لماذا فعلوا ذلك ووضعوا كل بيضهم في سلة الأطراف المعادية للإسلاميين والرافضة لوجودهم؟ فلا يبدو أن الدافع وراء مثل ذلك الخيار كان فقط ذاتيا. فمعظم المراكز الإقليمية والدولية، لم تكن وبقدر متفاوت ترتاح أيضا لانخراط واسع للنهضويين في السلطة، بسبب ارتيابها وتشككها، وحتى نقص معرفتها بهم، وبدافع الخوف أيضا من التغيير ومن ضخ دماء جديدة في جسد حكم عتيق. ولعل ما زاد في بعثرة وإرباك الحسابات الإماراتية، هو وصول الغريمين التونسيين، أي النهضة وحزب النداء، الذي يمثل خليطا من الحرس القديم واليساريين إلى صيغة تعايش ضمن ائتلاف حكومي واحد. لقد مثل ذلك الائتلاف على نقائصه وعلاته طوق النجاة الحقيقي لتونس، وجنبها السقوط في المجهول، ولكنه تحول إلى كابوس حقيقي يقض مضاجع كثيرين ومن بينهم حكام دبي. 

لكن كيف يمكنهم تفكيكه وإسقاطه؟ هل بالانقلاب الصريح والنفخ في غضب الشارع مثلما حصل في مصر؟ أم بالخدع والمناورات، كما يفضل بعض السياسيين المحليين؟ لم يكن الخيار الأول مستبعدا في أي وقت، ولكن الثابت أيضا أن الثاني بصدد التطبيق. والواضح أن كل قصة الحظر الإماراتي على التونسيات، وما تبعها من ردود أفعال في العاصمتين، كانت فصلا من تلك الفصول المستمرة لتقويض الائتلاف. ويدل موقف السلطات التونسية على أنها تجنبت السقوط في الفخ، وتبنت أسلوبا متزنا بتشديدها على أن من قام بالحظر هو «شركة الطيران الإماراتية» وليس طرفا آخر.

وحتى إن صدر عن وزير الخارجية في وقت سابق تصريح بضرورة اعتذار الإماراتيين بشكل رسمي عن الإساءة التي لحقت تونس، فإن ذلك لا يعني أن المسؤولين التونسيين لم يكونوا مدركين أن الهدف من وراء أزمة الطيران كان قص جناحي السلطة وإعادة خلط الأوراق. ولأجل ذلك فقد اعتبروا أن الحفاظ على الكرامة لن يكون ممكنا إلا باستكمال مسار الديمقراطية الرخو والمهدد، ورأوا أن القبول برجوع طيران الإمارات أفضل من انتظار اعتذار غير ممكن. لقد مدوا أيديهم وأغلقوا قوس أزمة يعرفون أنها لاتزال مفتوحة. ولكن أليس التراجع ضروريا أحيانا للتقدم مستقبلا؟ هذا ما يرجوه التونسيون على الأقل وما يأملون أن يدركه جيدا من يشعلون الأزمات بسرعة ويظنون أن ستختفي وتتبخر بعدها بالسرعة نفسها. 

القدس العربي