عندما فازت جماعة الإخوان المسلمين بـ (88) نائبا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في
مصر سنة 2005، اشتد الهجوم الإعلامي على الإخوان، وتكرر بشكل مكثف الحديث عن افتقاد الجماعة للشرعية القانونية، ومن خلال ما وصفته حينئذ في مقالات عدة، بـ "حملة الإبادة الإعلامية"!
هذه الحملة قامت على أمرين: الأول أن الجماعة غير شرعية، وبالتالي ينبغي رفض وجودها السياسي. والثاني كان من خلال الدعوة للفصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي، في الرد على ممارسة الجماعة للسياسة، مع كونها جماعة دعوية، وهو كلام الخبراء والباحثين من جماعة المولاة!
لقد كتبت أكثر من مرة ردا على هذه الحملة، بأن جماعة الإخوان المسلمين تحوز على شرعية الأمر الواقع، شأنها في ذلك شأن الحزب الوطني الديمقراطي، فكلاهما: الحزب والجماعة، يفتقد للترخيص القانوني من لجنة شؤون الأحزاب، فالحزب خلق بقرار من الرئيس السادات، وهو لا يغني عن الشرعية القانونية، و"عدت وزدت" في ذلك، وشرحت بالتفصيل كيف أن موقف الحزب الحاكم من الناحية القانونية هو كموقف جماعة الإخوان المسلمين، وكنت يومها كمن يؤذن في مالطة، فحتى الإخوان في دفاعهم عن صحة وجودهم لم يستعينوا بهذا الدفع على وجاهته، فكونك تصنف على أنك خصم للجماعة، فإن التعليمات تصدر بتجاهل وجودك ابتداء، إلا من خلال بذاءات كانت تنشرها ضد شخصي جريدة "آفاق عربية" التي تشرف عليها الجماعة!
وعند الحديث عن القانون وضرورة احترامه، فقد كتبت أن هذا واجب عندما نكون أمام قانون يتضمن خصائص القاعدة القانونية من حيث كونها عامة ومجردة، وأن يكون من وضعه هو مشرع حقيقي لا مزيف، وعندما يمنح القانون الرخصة للنطيحة، والموقوذة، والمتردية، وما أهل لغير الله به، لتأسيس أحزاب تولد ميتة، ولا تمثل في البرلمان ولو بنصف نائب، إلا بالتزوير، الذي تم لصالح خالد محيي الدين زعيم حزب التجمع الوطني الوحدوي، ويحجب هذا القانون شرعيته عن جماعة تتمكن من الفوز بـ (88) مقعدا، ولولا التزوير لتضاعف العدد، فإننا نكون أمام نصوص تفتقد للأركان المحددة للقانون التي تفصل بينه وبين أعمال البلطجة التي تمارس من قبل السلطة المستبدة. وكان رئيس الوزراء أحمد نظيف قد صرح بأنه لولا التزوير الذي حدث في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية لنجح للإخوان (44) نائبا آخرين!
وفي مواجهة "أسطوانة" الدعوي والسياسي، كان حديثي عن استغلال الحزب الوطني، لائمة الأوقاف، وللطرق الصوفية، وللكنسية، في الدعوة لانتخابه وانتخاب مرشحيه بمن في ذلك المرشح الرئاسي، ثم كيف يُطلب الفصل بين السياسي والدعوي، والدعوة محظورة إلا بقرار من الأمن، فجماعة الإخوان محظور عليها الدعوة ثم يطلب منها أن تفصل بين الدعوي والسياسي، وضربت مثلا بالدكتور عصام العريان، الذي بنى مسجدا، ومُنع من الخطابة فيه، واعتلاء منبره، وإمامة المصلين!
وقد تذكرت هذا كله في ليلة ليلاء، جرى فيها استدعاء هذه الدعاية من قبل القيادي السابق بالجماعة الدكتور إبراهيم الزعفراني، وهو من أنبل من خرجوا من الإخوان، فلم يدفعه خروجه لأن يفجر في الخصومة كما ثروت الخرباوي، وكمال الهلباوي، ومحمد حبيب، ومختار نوح، وإلى حد تأييد الانقلاب العسكري، وتأييد المجازر التي قام بها العسكر، حتى صرنا أمام حالات نفسية، ينبغي النظر إليها من هذا الزاوية، وليس التعامل معها بحسبانها تعبيرا عن الخلاف السياسي، وبعضهم وصل به الحال للهجوم على حسن البنا نفسه، فماذا بقي من إخوانيتك إذن؟ ولماذا مكثت في الجماعة كل هذا العمر؟!
الأعضاء السابقون بالإخوان، لا يجدون غضاضة في استدعاء كل ما كان يردد من قبل خصوم الجماعة عندما كانوا هم أعضاء فيها، فصرنا أمام استدعاء لكل التراث القديم، في معركة تصفية الحسابات، والمكايدة السياسية، وإن كنت أرى أن الدكتور الزعفراني بعيد عن الانتقام، على الأقل في هذه الليلة، إلا أنني وجدتني أمام ذهنية أنتجت تشويشا، على نحو، لم يكتف باستدعاء تراث دولة مبارك، والحديث عن الدعوي والسياسي، وإنما تجاوز كل الحدود عندما نصب نفسه كاهن الدولة المدنية، والمتحدث باسمها، ومن بيده "عقدة النكاح"؛ فيحدد من هو السياسي الذي يجوز له الكلام في السياسة والانشغال بها، ومن هو غير السياسي الذي لا يجوز له أن يتكلم في غير تخصصه، وهي حالة من النرجسية، كان يمكن فهمها عندما تنطلق من داخل البيت الإخواني، بين المتصارعين على الزعامة، فيعتبرون أنفسهم، ولأسباب خاصة بهم أنهم "أهل السياسة"، وغيرهم أهل دعوة، فمن حقهم بالتالي أن يرتبوا خريطة الكون، وليس من سلطة منافسيهم إلا السمع والطاعة!
لا شأن لي بما بين البصلة وقشرتها، وبين الجماعة وأطرافها، أو بين الإخوان والإكس إخوان، لكن أقلقني إلى حد الفزع تصورات الدكتور الزعفراني عن الدولة المدنية، وللدقة تهويماته إلى حد ظنه أنها يمكن أن تقصي وتجنب، والذي أكد لي أن درجة القلق مرتفعة عن معدلاتها الطبيعية إنني حاولت الاتصال بزملاء من الإعداد في برنامج محمد ناصر، للرد على هذه المداخلة فلم أتمكن من ذلك، وكانت هذه المرة الثانية لي في حياتي التي سعيت فيها للقيام بمداخلة تلفزيونية في أحد البرامج، كانت الأولى عندما استضافت لميس الحديدي جمال مبارك في حملة تقديمه للناس، ووضعت رقم هاتف على الشاشة لاستقبال اتصالات المشاهدين، ولأنها كانت جميعها مرحبة به وبعبقريته الفذة، فقد ظللت طوال إذاعة البرنامج اتصل، بينما الهاتف مشغول، قبل أن أكتشف أنه مسجل في هيئة الاتصالات باسم محل "موبيليات" بشارع رمسيس، وكان ما جرى هو موضوع مقالي في هذا الأسبوع بجريدة "القدس العربي"، حتى لا يقول متربص إنها شجاعة بأثر رجعي!
إن الدولة المدنية هي قضيتي أنا، منذ أن كان الدكتور إبراهيم الزعفراني قياديا في جماعة، تمثل "الخلافة الإسلامية" بالنسبة لها رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وهو في ثوبه الجديد في حزب "مصر القوية" يستدعي تراث الدولة الأموية في حديثه عن الدولة المدنية، التي لا يجوز لأحد فيها أن يضع المتاريس في مواجهة إرادة الناس، فإما أن يختار الناخبون عبد المنعم أبو الفتوح، وإلا يكونوا قد صبؤوا، وإما أن ينخرطوا في حزب "مصر القوية" ليكونوا سياسيين لهم حق ممارسة السياسة، أو يصبحوا ليسوا سياسيين!
وفي الواقع أنه بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية صارت عندنا متلازمتين: الأولى: متلازمة حمدين صباحي، والثانية متلازمة عبد المنعم أبو الفتوح، وقد ذهبا لميدان التحرير ومعهما خالد على بعد سقوطهم في محاولة بائسة لقطع الطريق على استكمال الانتخابات وفي مشهد عبثي، ونصب المهووسون بالأول حلقة ذكر اسمها "حمدين سيعيد"، فعلى مرسي أن يتنازل له، وعلى الانتخابات الرئاسية أن تعاد من جديد بما يسمح له بالإعادة، وعلى العالم أن يقف على أطراف أصابعه حتى يتمكن حمدين من الإعادة فيحقق حلم الأمة بذلك، وإن كانت حالة أنصار عبد المنعم أبو الفتوح أقل بؤسا، إلا أنها تفرز أحيانا تصرفات وأفعالا تجعل المرء يصاب بالحول العقلي!
إن خروج عبد المنعم أبو الفتوح والزعفراني، من جماعة الإخوان لا يعطيهما الحق أن ينتقلا على الفور، إلى منظرين للدولة المدنية، ويصبح من حقهما تحديد من هو السياسي الذي يجوز له ممارسة السياسة، ورجل الدعوة الذي ينبغي أن يسعه بيته ويبكي على خطيئته لأن الدعوة ليست متاحة، وقد أمم الانقلاب العسكري البر والبحر، كما أمم المساجد، واستولى على المنابر!
ومن قال للقوم الذين غادروا الجماعة، إنهم بمجرد أن غادروها صاروا ساسة، ينبغي أن يحتكروا وحدهم مجال العمل السياسي، وأين مارسوا السياسة أصلا؟!.. سيقولون في الجامعات؟.. فحتى في هذه كانوا أقرب للدعوة منها للسياسة، وحديث أبو الفتوح نفسه للسادات كان قريب من الدعوي، وهو يتحدث عن وزير الأوقاف ومنع الشيخ الغزالي من الخطابة، وإذا اعتبرنا فترة العمل الطلابي تندرج تحت باب ممارسة السياسة، فإن غريمهما خيرت الشاطر يكسب، لأنه كان الأقرب إلى العمل السياسي إذ كان وقتها ينتمي لمدرسة السياسة لا الدعوة حيث كان يساريا لم يتأخون!
لستُ مشغولا في حديث المكايدة بين الإخوان والإخوان المتقاعدين، إلا من بما مس منه الثورة "من لغوب"، ومثل "شوشرة" عليها، تصب بدون دراية في حساب الانقلاب العسكري!
فهل فعلا المشكلة الآن هي في الخلط بين الدعوي والسياسي؟ وهل لو قررت الجماعة أن تطوي ملف العمل السياسي وتتركه لحزب "مصر القوية"، وتتفرغ للدعوة، سيسمح لها بالدعوة، وسيسقط الانقلاب كما يتساقط ورق الشجر اليابس؟!
لقد حدث الانقلاب، ليس لأن هناك خلطا بين الدعوي والتنظيمي، فهذا متحقق في حزب النور والفرقة السلفية التي يتبعها، لكن لا كلام عن الدعوي والسياسي هناك لأن النور من ناحية منحاز للانقلاب، ولأنه من ناحية أخرى أيد عبد المنعم أبو الفتوح دون أن يطلب منه الفصل بين السياسي والدعوي، ومجال الدعوة مفتوح لياسر برهامي ومن معه على البحري!
الانقلاب وقع، لأن الدولة العميقة احتشدت ضد الثورة، ومعها معارضة مبارك الرسمية التي صنعت على أعين الأجهزة الأمنية، وشاركها في المؤامرة بعض الثوار البلهاء خريجي "حضانات المستشفيات" بمن فيهم البرادعي، وتصادف هذا مع وجود قائد عسكري متمرد، لم يحلم بخوض حرب والانتصار فيها كالقادة العسكريين، وإنما حلم بأن يكون رئيساً للبلاد، فضلاً عن تحالف قوى إقليمية ودولية حاقدة على الربيع العربي!
إنني استشعر الأزمة التي تسبب فيها الخلط بين التنظيمي والسياسي لكن على قواعد مقاومة الانقلاب، وليس في مجال الانبطاح أمامه، فالخلط كان سبباً في أن الثورة على الانقلاب ينبغي أن تراعي مصالح إخوان لندن، وإخوان اليمن، وإخوان سورية الذين لم يشاركوا في مقاومة بشار ولو بشطر كلمة، وقد تم رهن الثورة المصرية، ورهنت قضية إسقاط الانقلاب، من أجل مصالح التنظيم، ومن بين الإخوان من لا تشغلهم الثورة ونجاحها، ولكن يشغلهم مصلحة التنظيم في كل أرجاء المعمورة، فماذا سيفيد التنظيم إن كسب مصر، وضاقت مدينة الضباب على إبراهيم منير بما رحبت؟!
ثم من أي منطلق سياسي يتحدث صاحبنا فيقرر من السياسي ومن غير السياسي؟ في دولة يشغل الموقع السياسي الأول فيها من يعترف بأنه ليس سياسيا، فأين مارس عبد الفتاح السيسي السياسة؟ وهل كان عدلي منصور سياسيا وأبو الفتوح يشد الرحال إليه مهنئا؟ بل وأين مارسها أي منتحل لصفة السياسي، وقد أغلقت حركة ضباط الجيش في يوليو سنة 1952 المجال السياسي، وكل التنظيمات التي افتعلها عبد الناصر مثل الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب، هي كيانات تخلقت في رحم العقم السياسي لاستكمال الشكل ليس إلا!
عندي اقتراح لحل مشكلة الإخوان، مع الإكس إخوان: "بلاها مرسي"، "بلاها أبو الفتوح"، "خذوا حمدين"!
فحمدين هيعيد!