لا تزال أطراف الصراع الإقليمي والدولي حائرة في التوصل إلى أساس متين تستند إليه في بناء استراتيجية دعائية فكرية مناهضة لإيديولوجية
تنظيم الدولة للحد من جاذبيته وقدرته على التجنيد والاستقطاب.
إذ تختلف الآراء حول الجذور الفكرية المؤسسة لعنف التنظيم وطبائعه المرعبة فالأطروحات الاستشراقية تصر على جذور التنظيم المرتبطة بنصوص القرآن والسنة والممارسة التاريخية للقرون الإسلامية الأولى، بينما يشدد البعض على أن صعود التنظيم وتوحشه نتيجة للنزعة الإمبريالية الأمريكية التي أفضت إلى غزو العراق ثم الانسحاب الذي أدى لتنامي ودور
إيران في دعم الميليشيات الشيعية في المنطقة، ويجزم البعض أن التنظيم نتاج طبيعي لحركات الإسلام السياسي وأطروحاته التعصبية وطموحاته بدولة الخلافة، ويشدد آخرون على أن التنظيم مجرّد كيان تحرّكه اللعبة
الطائفية الإقليمية الباردة لتحقيق أغراض سياسية انتهازية قاصرة.
في سياق التفسير الانتهازي للعبة الطائفية تعمل القوى الإقليمية إلى تبادل الاتهامات حول صلة التنظيم بأجهزة ودول محددة، فإيران تصر على أن تنظيم الدولة هو نتاج الإيديولوجية السلفية الوهابية برعاية
السعودية وهي تشدد على أن السعودية هي الراعي الأكبر للتنظيم على صعيد الكوادر البشرية والمصادر المالية، لكن السعودية تنكر الإدعاءات الإيرانية وتشدد على أن السياسة التوسعية الإيرانية ونهجها الطائفي يستثمر من خلال أجهزته الأمنية بإسناد تنظيم الدولة للبرهنة على طبيعة النسخة السنيّة الإرهابوية وتشدد على أن التنظيم في الوقت الذي استهدف السعودية يتجنب استهداف إيران والأنظمة التابعة لها.
لا يبدو أن ثمة نهاية للعبة الطائفية التي تسعى جاهدة لإقناع السيد الأمريكي الكبير. فالولايات المتحدة والغرب عموما يدركون جيدا هذه اللعبة فهي من ابتكاراتهم الحصرية أصلا منذ الحقبة الكولينيالية الاستعمارية التي عمدت إلى تحويل المذاهب الدينية إلى طوائف متناحرة بهدف التحكم والسيطرة، كما أن السياسات الأمريكية تنشد ديمومة اللعبة الطائفية وتدعم كافة أطراف اللعبة لديمومة تفوقها وتحقيق مصالحها دون اعتبار للسنة والشيعة.
في سياق اللعبة الطائفية نشرت مؤخرا اعترافات قيل أنها لأحد أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية علي عمر الملقب بـ"أبو تراب"، وبحسب التحقيقات التي أجرتها الكويت مع المتهم فقد أدلى بتصريحات قال فيها إن تنظيم "داعش" على علاقة جيدة بالنظام السوري والاستخبارات الإيرانية، ولا أعرف إذا كان المتهم قد استخدم تعبير "داعش" تكفيرا عن ذنوبه أم أنها تعبير صحفي استخباري، ولم تقتصر اعترافات أبي تراب على ادعاء صلة داعش بالنظام السوري والاستخبارات الإيرانية بل إن "أبو تراب" حضر شخصياً اجتماعات تنسيقية مع جهات تمثل نظام الأسد ومخابرات طهران، كما أن "أبو تراب قدم" كشفاً بأسماء القادة الميدانيين للتنظيم، وجنسياتهم، وآلية عملهم، واتصالاتهم مع الجهات الاستخباراتية.
إذا كانت "داعش" هي مجرد أداة في اللعبة الطائفية كما تدعي المقاربة فهل يمكن أن تستحق آلاف الضحايا من السنة والشيعة لأغراض سياسية، وهل ستنتهي في حال التوصل لاتفاق بين أطراف اللعبة ولماذا لا يتحرك أسياد اللعبة التي طالت الهجمات عمقها، أم أن اللعبة تتجاوز إمكانات الدول الكبرى بالضغط على أطراف الصراع الإقليمي؟
إن ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية تتجاوز نظريات المؤامرة وحدود اللعبة الإقليمية، بل إن تنظيم الدولة الإسلامية شيّد جاذبيته الإيديولوجية على تخوم المسألة الطائفية باعتباره يمثل "إسلاما نقيا يناهض الأطروحة الإيرانية والسعودية"، فمنذ انطلاق ثورات الربيع العربي كانت المنطقة تشهد صراعا سياسيا يقوم على تحالفات إقليمية مسندة من قبل القوى الدولية، وقد أخذ الصراع طابعا جيو سياسيا بين قوتين إقليميتين أساسيتين؛ أحدهما إيران التي تزعمت محور "الممانعة والمقاومة" وثانيهما السعودية التي تزعمت محور "الاعتدال العربي"، ومع دخول سوريا آفاق الحراك الثوري أصبحت سوريا مركزا أساسيا للصراع الجديد، حيث وضعت إيران والسعودية ثقلهما في معركة النفوذ الإقليمي، الأمر الذي باتت فيه "الطائفية" ركنا رئيسيا في حلبة الصراع، لكنها ليست المحدد الوحيد في تفهم طبائع الصراع وتعزيز الانقسام بين "السنة والشيعة"، فالتلاعب الهوياتي الطائفي استخدم كاستراتيجية لتعزيز النفوذ الإقليمي في إطار لعبة توازن القوى، إلا أن سياسات التلاعب الهوياتي خرجت عن حدود السيطرة نسبيا.
في هذا السياق استثمر تنظيم القاعدة في العراق وسوريا خطوط الصدع الطائفي في تعزيز مكانته ونفوذه، وعملت سياسات التلاعب الهوياتي الطائفي على تدشين ولادة ثالثة لتنظيم القاعدة، وخصوصا الفرع العراقي الذي يتميّز منذ نشأته وتأسيسه على تأكيدات الهوية السنيّة، وأولوية مواجهة "المشروع الصفوي"، وعقب مرور أكثر من ثلاث سنوات من الصراع الهوياتي الطائفي في المنطقة، أصبحت الدولة الإسلامية في العراق والشام حقيقة واقعية ولم تعد افتراضية، بل إنها أعلنت عن قيام "الخلافة" بعد سيطرتها على الموصل، وعلى الرغم من قوة تنظيم "داعش" الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا وضعف الدولة وتآكل شرعيتها وفّر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم، فالطبيعة السلطوية والطائفية "الشيعية" لنظاميّ الأسد والمالكي المسندة من إيران، ودعم السعودية للحراكات "السنية"، حرفا طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وعملت لاحقا على خلق بيئة مثالية خصبة لتنظيم الدولة الإسلامية للتعبئة والتجنيد.
استثمر تنظيم الدولة الإسلامية اللعبة الطائفية لتعزيز مكانته في العراق وسوريا عقب بدء ثورات الربيع العربي الهش الذي شهد انبعاث الهويات الطائفية وعمل على تدشين ولادة ثالثة للجهادية العالمية وتكوين سلالة جديدة أكثر عنفا وأشد فتكا، فسياسات الهوية الطائفية التي اعتمدتها إيران للتخلص من استحقاقات عادلة مكنت دولة البغدادي من السيطرة على مساحات شاسعة غرب العراق وشرق سوريا فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظاميّ الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية أيديولوجية للتنظيم.
خلاصة القول أن اختزال صعود تنظيم الدولة الإسلامية في حدود نظرية اللعبة الطائفية لا تتمتع بمصداقية ولا يمكن بناء استراتيجية مناهضة لخطاب وممارسة التنظيم من خلال نظرية هشة تختزل التننظيم باعتباره أداة انتهازية لأغراض سياسية بيد إيران أو السعودية، بل إن تنظيم الدولة الإسلامية عزز مكانته من خلال استثمار اللعبة الطائفية وتهافت منطقها وضعف قدرتها التفسيرية، ذلك أن صعود التنظيم نتاج ظروف موضوعية معقدة سياسية واقتصادية واجتماعية ومواضعات محلية وإقليمية ودولية شائكة.