نقلوه أخيرًا إلى
السجن العسكري، بعد حكاية طويلة، فقد أفرجت عنه المحكمة العليا، ولكن المحكمة العسكرية أمرت بإرجاعه إلى السجن، وهكذا.. حكموه في جلسة واحدة، وبلا محام، ثلاث سنوات احتسبوا منها تلك الشهور التي قضاها لدى الجهاز الأمني.. وهكذا قضى أيامًا في مركز التوقيف الملحق بمقر الجهاز العسكري برام الله، قبل نقله إلى السجن العسكري بأريحا.
في أريحا، وجد بعضًا من إخوانه قد سبقوه إلى هناك، وكانوا اثنين، يعيشون في غرفة واحدة مع السجناء من عسكر السلطة، وأصحاب قضايا جنائية، وكان إخوانه وحدهم السياسيين من بين كل هؤلاء، ويمكن لك أن تتخيل الجحيم الذي ينبثق عن كل هذا الخليط، ولكنه جحيم لا يصطلي به إلا هؤلاء السياسيون، ويمكن لك أن تتخيل غرفة كاملة كل من فيها يتطوع مخبرًا عليك لدى إدارة السجن، وهي حالة كثيرًا ما كنت تنتهي بالضرب، والعزل، وحلاقة شعر الرأس، فكيف إذا كان فوق ذلك أصناف من الإذلال والإهانة والابتزاز.
كانوا ممنوعين من كل شيء تقريبًا، حتى أنهم أثثوا الغرفة بالتلفاز والثلاجة وأدوات الطبخ من مالهم الخاص، وصاروا يشترون أغراضهم عن طريق السجن بأضعاف ثمنها، وظلوا ممنوعين من إدخال الأغراض عن طريق الأهل، وكان اتصالهم بالأهل حكاية، وفرجتهم على التلفاز حكاية، وشراؤهم للأغراض حكاية، وكل حكاية منها تنطوي على عذاب عميق، وكدر خانق، ولكنها حكايات تطول، ويطول معها العذاب والكدر.
لما وصل إلى إخوانه، قالوا له لقد هبطت إلينا من السماء، "هل تعلم؛ كنا ندعو الله أن ينقلوك إلينا"، "يا أخي، نحن نحتاج إليك أنت.. أنت بالذات لترفعنا مما نحن فيه"، "نريدك أن تعظنا، أن تخفف عنا.."، تذكر، أنه حينما حُكم عليه بالسنوات الثلاث، أرسل زوجه إلى أحد شيوخه كي تأتي إليه بموعظة منه يتسلى بها، ولكن كلمات شيخه ما نفذت إلى قلبه، ولكن كلمات أخرى من شيخه نفسه قد عالجته بعد حين.
أفرجوا عنه ذات مرة لإجراء عملية استئصال المرارة، وهذه أيضًا حكاية تطول بعذابها، فقد احتجزوه فترة في المستشفى قبل الإفراج عنه وهو مقيد في السرير لا يستطيع أن يقلب جنبيه لينام. زاره شيخه بعد الإفراج المؤقّت عنه، وقال له كلمة تفيض بحسن الظن، والتقدير البالغ، والمودة الوافرة، إذ قال له: "أنت قدوة يا شيخ"، لتنفذ هذه الكلمة إلى نفسه، كما لم تنفذ من قبل إليها كلمة، فقد عرض حاله على ما في تلك الكلمة من ظن حسن، وعرض ما يعرفه من نفسه على ما يرجوه الناس منه، فخفّت نفسه برجائهم، وثقلت بحزنه لما يعرفه من نفسه.
لما كان من قبل قد وصلَ إلى إخوانه في سجن الجهاز العسكري بأريحا، وشرّبوه تجربتهم التي سبقوه إليها، فأثقلوه من حيث أرادوا أن يخفّوا به، وألقوا عليه أثقالهم، وهو الذي يبحث عمّن يحمل عنه، وجد أنه لا مفرّ من النهوض بهذا الواجب، وإلا لانهار الجميع، فدفن أثقاله في أعماقه، تعمل عملها، وهو منشغل بالنهوض بهم، والإجابة على أسئلتهم "لماذا نحن وحدنا الذين في هذا"، "ألسنا مضطرين؟ فأين الذي يجيب المضطر إذا دعاه".. الخ، وكان عليه أن يسكّن هذه الأسئلة التي أقلقت ضميره، كي يقتطع من وعيه وتجربته ما يسكّن به قلقهم هم بأسئلتهم تلك.. وهذه أيضًا حكاية تطول.
بعد أن أجرى عملية المرارة، ورجع إلى السجن، طلب أن يظل في مركز التوقيف الملحق بمقر الجهاز العسكري برام الله، هربًا من جحيم السجن في أريحا، وقربًا من الأهل، ولأجل القليل من المعاملة الحسنة، فهنا يمكنه أن يدخل الكتب، وما يشاء من أغراض الأهل، ولكنه في مركز توقيف، مجرد من كل أدوات الحياة داخل السجن، فإذا أراد أن يصنع كوبًا من القهوة، كان يملأ من ماء "الدوش" الساخن، قنينة بلاستيكية، ويضيف إليها القهوة ويخضها، وإذا كان الأمر كذلك مع غلي القهوة، يمكنك أن تتوقع أنه كان مجردًا من كل شيء في غرفته الضيقة المعتمة فقيرة الضوء والهواء، سوى من كتبه، وأعزها إلى قلبه، المصحف، وصحيح البخاري، اللذين رافقاه رحلته كلها، وإن كان مع زملاء آخرين، تمكن من إدخال "راديو ترانزستور"، ومن غلي القهوة عند السجانين.. ولغلي القهوة أيضًا حكاية تطول.
قضى رمضان هذا السجن الأول، في مركز التوقيف الذي يعبره الناس وهو فيه باق، مع قليل من السياسيين وكثير من العسكر والجنائيين، وبعض العملاء، وكلهم صار يصلّي خلفه، وقد علّم بعضهم الصلاة، حتى سورة الفاتحة، وهو الملول الضجر بطبعه، ثم صار مرجع السجانين في الفتوى وتفسير الأحلام، كما صار مصدرهم في القهوة، وإن عجبك لن يزول حينما تعرف أسئلتهم الغالبة.
في رمضان الذي تلاه، كان السياسي الوحيد بين هذا الركام، يمرّ به العابرون، وهو مكانه، يغالب أسئلته القلقة التي سكّنها في أريحا، وأطلق لها العنان في رام الله، دون أن تنعكس على جوارحه، فقد ظل إمامًا للمصلين الذين يبدؤون أولى صلواتهم خلفه، يؤنس وحشته بكتابه، ومصحفه، وصحيح البخاري، حتى إذا اشتدت به الأسئلة ذات ليلة، رأى نفسه في المنام يفسّر قوله تعالى: "والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".. فنهض يجد بردًا في صدره، ما تزال بقية منه حتى الساعة.