"إذاصُبّ في القنديل ماء ثم صُبّ عليه زيت صعد الزيت فوق الماء، فيقول الماء: أنا ربيت شجر تكف أين الأدب؟ لِم ترتفعُ علي؟ فيقولُ الزيت: أنت في رضراض الأنهار تجري على طريق السلامة، وأناصبرتُ على العصر وطحن الرحا وبالصبر يرتفعُ القدر".
صدقت يا ابن الجوزي بالصبر يرتفع القدر، والنصر إنما يكون بعد ألم العصر:
لا تحسبنَّ المجد تمرا أنت آكلهُ لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصبرا
بالصبر يا شرفاء مصر (التي نُحب) سوف يرتفع القدر، فلا تحسبوا تلك المحنة شرا لكم، بل هي خير لكم، وخذوها من أديبٍ غِراسه في أرضكم، وسقي بماء النيل، فخرج نباته بإذن ربه، واستوى على سوق الأدب، هو مصطفى صادق الرافعي، يُجسّد محنتكم وإن لم يشهدها، فيقول: "ما أشبه النكبة بالبيضة، تحسب سجنا لما فيها، وهي تحتوطه وتُربّيه وتُعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلا مدة والرضا إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقا آخر، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل، فيخرج إلى عالمه الكامل".
مصر جزء من وطني الأكبر، وكل بلاد الإسلام لي وطن، أخُصّها بتلك الكلمات، لأنها مصر التي كانت ولا زالت رُمّانة الميزان، هي مصر التي تعطيك المؤشر لقوة أو ضعف الأمة، وهي مصر التي انطلق منها صلاح الدين لتحرير القدس، وهي مصر التي أوقفت زحف التتار، ما حدا بالشاعر الفلسطيني خالد السعيد إلى أن يستعيد الأمجاد بقوله:
ووقفتُ في حطين أقطفُ زهرة الأمل النبيل
ورأيتُ في جالوت ماء النيل يبتلع المغول
محنة ومنحة:
هذه الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهل مصر بعد استلاب حريتهم ومصادرة آرائهم، ومحاربتهم في قوت يومهم، وذلك الاستبداد والطغيان الذي ران على صدورهم، وفتح أبواب السجون على مصراعيها لكل معارض شريف، وأودعها خيرة شباب وبنات ورجالات الدولة، وأسال دماء الأحرار، كل ذلك منحة لتصحيح الأوضاع وتمحيص الصفوف وسقوط الأقنعة.
هي محنة تبين فيها الصادق من الكاذب، والصديق من العدو، وما كان هذا التمحيص والتمايز ليحدث بغير هذه الزلزلة.
يقول غوستاف لوبون في كتابه "روح الثورات والثورة الفرنسية": "تغلُّب الأوهام على الشعوب أنفع، فمن مجموع تلك الأوهام تنشأ مُثُل الشعوب العليا المُسيِّرة لها"، ويقول فونتنيل: "لولا الأفكار الباطلة لضاعت الشجاعة".
هي منحة في قالب المحنة، لكي يخرج جيل جديد، اعتاد مشهد القضبان وقاعات المحاكمات،وتربى في أجواء القمع وقنابل الغاز، والرصاص المطاطي والحي، يواجه كل ذلك بصدور عارية، ولم يستجب للنداءات العقيمة التي تطالبه بأن يكون في خاصة نفسه، ويسير ملصقا جانبه بالجدران.
فالتغييرُ بحاجة إلى جيل لم تتشبع نفسه بالذل والهوان والخنوع، جيل تُغرس فيه القيم بالحال لا بالمقال، ولعل التيه الذي دخله بنو إسرائيل في زمن موسى وهارون، واستمر أربعين عاما، خير شاهد ذلك، ففي خلال فترة التيه، ولد جيل جديد تربى على الجدية ومواجهة الظروف الصعبة، وكان هو الجيل الذي دخل به يوشع بن نون بيت المقدس بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام.
حتمية الثورة:
الثورة في مصر آتية آتية، وفي حقيقة الأمر، هي موجة ثانية للثورة، فقد اندلعت بالفعل في 25 يناير، لكن هذه طبيعة الثورات، تحدث لها انتكاسات ثم تتعافى، وهذا أحد الفروق الهامة بين الثورات والوقفات الاحتجاجية العارضة أو الانتفاضات الفئوية، فالثانية تنتهي إما بالقمع أو تحقيق المطالب، أما الثورة فهي ممتدة، فالثورة الفرنسية على سبيل المثال استمرت عشر سنوات مرت خلالها بعدة مراحل.
الثورة (أي الموجة الثانية) قادمة لا محالة، فالوضع الاقتصادي في انهيار مستمر، ولم يحقق قائد الانقلاب الحد الأدنى من تطلعات الشعب المصري رغم وعوده البراقة، وفي أحد التقارير التي عرضتها قناة الجزيرة مؤخرا، تبين أن القيمة الشرائية للعملة انخفضت بشكل مريع، وما كان يشتريه المواطن بـ 800 جنيه، صار يشتريه بـ ألف جنيه.
وقفتُ من خلال متابعتي المستمرة للشأن المصري على ارتفاع مخيف في أسعار السلع الأساسية وفواتير استهلاك الماء والكهرباء والغاز، وأن السوق في حالة فوضى فيما يتعلق بالأسعار، حيث يتحمل المواطن البسيط في النهاية أي ارتفاع لأسعار السلع من قبل كبار التجار والمستوردين.
الثورة قادمة لأن الاستبداد والقمع الذي تمارسه الأجهزة الأمنية فاق كل التصورات، وأصبحت المعتقلات والسجون تكتظ بالأبرياء من الجنسين ومن مختلف الأعمار، وصار الجميع يعلم أن النظام يحرص على استمرار سخونة الأوضاع لتبرير فشله وعجزه في إدارة البلاد.
الثورة قادمة لأن الكتلة التي أيدت زعيم الانقلاب ودعمته في الانقلاب على الشرعية تتآكل بعد أن انكشف الغطاء عن السيسي، وأدركوا أنهم قد صنعوا ديكتاتورا جديدا، قد أغرق البلاد لتحقيق مجده الشخصي على الأشلاء وسلب الحريات، ومن ثم اختفى التأييد الشعبي للسيسي وتحول إلى حالة عامة من السخط على ممارسات النظام.
الثورة قادمة بعد أن أدرك الشعب
المصري خديعة النظام الكبرى حول قناة السويس، وآبار الغاز، ومليون وحدة سكنية على أرض الوهم.
الثورة قادمة لأن سيناء القطعة الغالية من مصر، تُباع من أجل عيون الصهاينة، وما الحرب ضد تنظيم الدولة (داعش) في سيناء إلا غطاء لتنفيذ المخطط الإسرائيلي الذي يقضي بإخلاء جزء كبير من سيناء لإقامة وطن للفلسطينيين في قطاع غزة وسيناء، وهذا ما يتورط في دعمه زعيم الانقلاب، فأهالي رفح يتم تهجيرهم، ويتم إخلاء المناطق الحدودية من سكانها، وهناك جنود أمريكان في سيناء، ومطالبات بإرسال قوات دولية لسيناء بدعوى فشل الأمن المصري في السيطرة عليها، وهو ما تنادي به إسرائيل ليل نهار، وتأكد ذلك بعد سقوط الطائرة الروسية.
طبيعة الثورة القادمة:
برأيي ستبدأ الثورة القادمة أو الموجة الثانية باحتجاجات فئوية تتسع دائرتها، من فئات العمال والمهنيين والنقابات وشرائح الفقراء والبسطاء، أشبه بما يسميه البعض من ثورة الجياع.
القوى السياسية المعارضة والشبابية الثورية سوف تستثمر هذه الاحتجاجات وتستغل الزخم العام الذي يتجه للتغيير، وتقوم بتوجيه الشارع المصري.
سوف يقف الثوار في مواجهة عاتية مع الشرطة المصرية، أما الجيش فمن المعلوم أن نجاح الثورات يكون دائما بمعاضدة الجيش أو تحييده على الأقل، وفي الحالة المصرية قد يكون هناك تدخل محدود لا يؤثر في إجهاض الثورة، أما تدخل شامل فمستبعد، لأنه ما من بيت مصري إلا وبه عنصر أو أكثر في القوات المسلحة المصرية، وكل جندي سوف ينزل الشارع بسلاحه يعلم أنما يقتل جاره أو صديقه أو قريبا له.
الشرطة المصرية لن تتوانى في سفك الدماء بوحشية حفاظا على هيكلها المتنفذ، ولن يغيب عن العقلية البوليسية أحداث 25 يناير وما بعدها، عندما فقدت الشرطة هيبتها ونفوذها.
هذه الموجة سوف تشهد تطهيرا لكل المؤسسات الصلبة ومحاكمات ثورية لكل المتورطين في الدماء والفساد من الانقلابيين وفلول الدولة العميقة، وهذا ما افتقدته الموجة الأولى، فما من ثورة ناجحة إلا وقامت بعملية تطهير لهذه المؤسسات الصلبة.
عوامل التفوق في الموجة الثانية:
ستشهد الموجة الثانية نقاط تفوق افتقدتها في 25 يناير، أبرزها الاستعداد والتنسيق بين القيادات السياسية والشعبية لتسيير الثورة وتجنب العشوائية، فالموجة الأولى برزت من العدم بغتة، ولم يكن يخطر ببال المصريين أن تقوم ثورة على نظام مبارك، وبدأت بوقفات شبابية، وركبت فوقها القوى السياسية بعد التمدد الأفقي والرأسي لهذه الاحتجاجات، أما الموجة الثانية، فقد سبقها التنسيق المستمر بين قوى المعارضة على اختلاف أطيافها.
ومن ناحية أخرى سوف تستفيد الموجة الثانية من رصيد التجربة، حيث سيكون الشعب في حذر من تكرار هذه المأساة.
وستستفيد قوى المعارضة من التجربة، وستصل إلى صيغة ثورية متفق عليها بسقف مطالب وتطلعات موحدة.
موقع الإسلام السياسي من الثورة القادمة:
قوى الإسلام السياسي الذي يمثل الإخوان بالدرجة الأولى، سوف يستفيد من التجربة السابقة، فالثورة القادمة لن تكون ذات صبغة إسلامية، بل سيسعى التيار الإسلامي - بالتنسيق مع القوى الأخرى - إلى خلق مناخ ديموقراطي كأرضية مشتركة مع القوى الثورية، وسيتم الاتفاق على شخصيات وطنية تلقى قبولا عاما لإدارة البلاد، يسهم فيها الإخوان بمنطق المشاركة لا المغالبة.
من خلال هذا المناخ الديموقراطي المأمول، سيعمل التيار الإسلامي بأريحية لتأهيل الشعب عبر مسار تراكمي لحكم إسلامي.
فالإخوان قد أدركوا أن قد التقطوا الطعم الذي ألقى به العسكر، بهدف ضرب التوريث والإسلام السياسي معا.
*قولوا عني حالمة، واهمة، مفرطة في التفاؤل، رحبة الخيال، مغرقة في النزع، غير أني قد كتبت ما أراه وأؤمن به، وإنا منتظرون.