كلٌ يدّعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
هذا البيت الذي عزاه ابن تيمية في مجموع فتاواه إلى مجنون ليلى، والبعض الآخر إلى أبي العتاهية وغيره، نسقط معناه على على أولئك الذين يدّعون أنهم أصحاب منهج سلفي، بل يحتكر بعضهم ذلك المنهج لنفسه، إلا أن كثيرا من المنتسبين إليه هم أبعد ما يكون عن الانتماء له.
مصطلح السلفية أصبح عائما ليس لدى خصومه وحسب، إنما لدى من ينتسبون إليه كذلك.
السلفية تعني اتباع منهج السلف الصالح من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذن منهج عقدي وفكري وتعبدي وسلوكي عام، يتحدد إطاره وفق واقع هذا الجيل الفريد.
وعلى هذا المعنى، فكل من اتبع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو سلفي وإن لم ينسب نفسه إلى السلفية، وكل من خالف ذلك المنهج فليس سلفيا وإن انتسب إليه.
وبناء على ذلك، لا يحق لأي طائفة أو جماعة أو حزب، أن يحتكر السلفية، أو يجعل لنفسه إطارا محددا من المفاهيم والسلوكيات والاختيارات الفقهية، يختبر الناس عليها، ويدخل ويخرج الناس من المنهج السلفي بحسب دخولهم في إطاره هذا أو خروجهم عنه.
يقول العالم السلفي الجليل محمد العثيمين رحمه الله في أحد لقاءات الباب المفتوح: "السلفية هي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاتباعهم هو السلفية، وأما اتخاذ السلفية كمنهج خاص ينفرد به الإنسان ويضلل من خالفه من المسلمين ولو كانوا على حق، واتخاذ السلفية كمنهج حزبي فلا شك أن هذا خلاف السلفية".
من خلال متابعتي المستمرة للشأن الداخلي
المصري وعلى وجه الخصوص منذ ثورة يناير، تزداد دهشتي كل يوم لمسار
حزب النور الذي ينتسب إلى السلفية، وبتعبير دقيق إلى فصيل سلفي يدعى "الدعوة السلفية"، كان هذا الفصيل منذ نشأته يركز على منافسة جماعة الإخوان المسلمين، وينصب من نفسه حاكما ومصنفا على جميع الفصائل الأخرى، حتى إنه قد اشتهر لدى المصريين والمتابعين للحركة الإسلامية في مصر، أن هذه الدعوة كانت حتى قبل الانقلاب تنسق مع الأمن وتصنف له الرموز والجماعات، وبالتالي يمنحها مساحات أوسع لممارسة أنشطتها.
هذا الفصيل الذي احتكر السلفية، وجعل من لم يدخل فيها ليس سلفيا، وادعى لنفسه الحق دون سائر الفصائل، تمخض بعد ثورة يناير عن حزب النور.
في ظل الظروف القاسية التي مرت بها مصر، ودخولها في حالة استقطاب حاد، كان رأي المخلصين أن تدعم فصائل التيار الإسلامي جماعة الإخوان المسلمين سياسيا، باعتبارها صاحبة تجربة طويلة في العمل السياسي، إلا أن الدعوة السلفية آثرت المنافسة لامتداد قواعدها الشعبية، ولأنها تنظر إلى نفسها على أنها الأنقى منهجا.
وفاز حزب النور بالمركز الثاني بعد حزب الإخوان في البرلمان، ليحاول القيام في عهد الرئيس مرسي بدور المعارض الفذ، ووضع العراقيل أمام مسيرة نظام مرسي بدلا من دعمه، حيث لم ينس الحزب جذور الصراعات الحزبية بين الدعوة السلفية وبين الإخوان.
وكانت الطامة الكبرى عندما كان حزب النور جزءًا من الانقلاب، بل وأعطاه الشرعية، وألقى أمينه كلمة في خطاب الانقلابي، بدعوى اختيار أخف الضررين، ودفع الضرر الأكبر باحتمال الضرر الأخف، وكان ذلك الموقف هو القربان الذي قدمه لزعيم الانقلاب، ليحافظ على بقائه على حساب الدماء والأشلاء.
سار الحزب بعدها في طريق اللاعودة، وظل يقدم التنازلات تلو التنازلات، لإرضاء سيده، والتلاقي مع الزمرة العلمانية المتنفذة، وامتلأت تصريحات قادته ورموزه بتحميل الإخوان المسؤولية عن هذه الأوضاع المأساوية، وقام بتأييد السيسي رئيسا لمصر، فما أقبح مشهد أصحاب اللحى وأوسمة السنة، وهم يرفعون صورة السفاح.
بل وذهب زعيمهم برهامي إلى تبرئة عبد الفتاح السيسي من دماء الشهداء التي أريقت في رابعة والنهضة، إنه السقوط في وحل التأويل.
كان الحزب يرفض بشدة القول بأن الصراع هو صراع على الهوية، وأكد أنه مجرد صراع سياسي، ومرر الدستور العقيم مُرحبا به، في الوقت الذي كان يستأسد فيه على نظام مرسي ويتمسك بالمادة 219 المفسرة للمادة الثانية، والتي تقيد التشريع بالمذاهب السنية وحدها، ويقول: "دونها الرقاب".
وبعد أن كان الحزب يعيب على الإخوان تهنئة الأقباط ويحرمه، ذهب رموزه بأقدامهم إلى الكنائس للتهنئة.
وبعد أن كان يعيب على الإخوان تساهلهم في تطبيق الأحكام الشرعية والالتزام بها، جعل يتقرب إلى سادته بترشيح قبطيات على قوائمه.
وحتما أنا لا أناقش المسألة من جانب فقهي، وإنما من جانب سلوكي، حيث فعل ما كان يأخذه على الآخرين وينتقدهم بشأنه.
وبالرغم من كل التنازلات التي قدمها الحزب، ومده يده لمصافحة كتلة الانقلاب، وزمرة العلمانيين، ورموز الثورة المضادة، إلا أن كل هؤلاء تنكروا لجهوده ودوره في الانقلاب وشرعنته، وصاروا يؤلبون عليه، وتعالت النداءات بإقصاء حزب النور باعتباره حزبا دينيا، وكانت حملة شرسة عليه، جعلته أضحوكة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وبدلا من أن يعود الحزب إلى رشده ويصحح مساره بعد إدراكه، أن نظام الانقلاب وأعوانه في الداخل والخارج ينبذون السمت الإسلامي، ويرفضون وجود أي قوة سياسية ذات جذور إسلامية، بدلا من ذلك، جعل كبيرهم يُحمّل نتائجها الكارثية (بالنسبة للحزب) على جماعة الإخوان، وفصائل ومشايخ السلفيين الذين قاطعوا الانتخابات، واعتبرهم فرطوا في مسؤوليتهم الشرعية والتاريخية والوطنية بعدم دعمهم للحزب الذي يمثل الحركة الإسلامية بحسب دعواه.
بعد هذه المسيرة المعوجة لحزب النور وتنكبه عن طريق الحق، نستطيع القول إن دعواه بالانتساب إلى المنهج السلفي باطلة، لأنه والى أعداء الدين، وعادى الصالحين المصلحين، وشرعن الباطل، وبرر القتل، وفرط في المبادئ، وكلها أمور تقدح في انتسابه إلى المنهج السلفي.
يا معشر حزب النور اللاسلفي، هل وجدتم ما وعدكم سادتكم حقا؟ لم تحصدوا سوى الشوك والمر، وانفض عنكم الناس، وانهارت قواعدكم الشعبية، واحتقركم الكبير والصغير، والعدو والصديق.
قد تكونون وصلتم إلى نقطة اللارجوع، وأن مزيدا من التنازلات تنتظرها الأمة منكم، وأن مزيدا من الشوك ينتظركم لحصده، غير أني أبشركم بثورة جديدة، لن تكونوا طرفا فيها، ثورة يلتقي فيها الشرفاء المخلصون، ولن تجدوا مكانا لكم بعدها، كما لم تجدوا لكم مكانا قبلها.