كتب أيمن الصفدي: للمرة الأولى منذ عامين، يتوافق مجلس الأمن الدولي على مبادرة سياسية لحلّ الأزمة في
سوريا. وفي هذا التوافق الدليل الأكبر على عبثية هذه المبادرة المستندة إلى الخطة التي اقترحها المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا. ذاك أنَّ ثمن هذا التوافق كان لغة فضفاضة تُتيح لكلّ طرف اعتماد التفسير الذي يشاء لها.
والفجوة بين ما تشاؤه الأطراف المتحكّمة بمسار الصراع في سورية وعليها ما تزال شاسعة. وستشهد المرحلة المقبلة نتيجة لذاك تصعيدا عسكريا يستهدف رسم حقائق جديدةً تُقوّي فرص هذه الأطراف فرض مشيئاتها حين تقرّر أنّ الخيار العسكري استنفد جدواه.
لذلك سخنت جبهات عديدة في سوريا. النظام يستشرس لاستعادة الزبداني والمناطق المتاخمة لدمشق والساحل. "داعش" تعمل على سحق المعارضات السورية العسكرية في جوار حلب. وتسعى
تركيا إلى فرض منطقة عازلة لا سطوة فيها للقوى الكردية، بينما تزيد هي وقطر دعمهما لجبهة النصرة ومجموعات إرهابية أخرى موالية لهما.
لكنّ الاستعداد لمرحلة ما بعد المواجهات العسكرية لا يعني اقتراب نهايتها. فإنضاج "الصفقة الكبرى" المطلوبة لتبلور قرار دولي إقليمي يوقف الحرب يتطلّب جهودا ما تزال في بدايتها.
فروسيا لن تتوقّف عن دعم النظام قبل ضمان مرحلة انتقالية تحمي مصالحها وتحول دون سقوط سوريا في فوضى ستقوي القوى الإرهابية التي تعتبرها موسكو تهديدا استراتيجيا لأمنها. وهي ترى في الإبقاء على مؤسسات الدولة في إطار اتفاق يكون النظام شريكا فيه السبيل الأوحد إلى الحل.
تتّفق إيران مع هذا الطرح لكنّها تريده أن يؤدّي أيضا إلى ضمانات حقيقية توفّر الحماية لحزب الله. وبعد الاتفاق النووي الذي حرّرها من حصار اقتصادي خانق وسيرفد خزينتها بعشرات البلايين من الدولارات، باتت إيران أكثر قدرة على تحمّل كلفة إسناد النظام السوري وأشدّ إصرارا على استخدامه لتعزيز نفوذها الإقليمي.
وفي الخندق المضاد، يرى
أردوغان إلى الملفّ السوري من زاويتي مخاوفه من احتمالات قيام دولة كردية ومطامعه "السلطانية". وترفض تركيا وقوى إقليمية أخرى أيّ دور للأسد في المرحلة الانتقالية، بينما تخضع أكثرية المعارضة السورية لإرادات داعميها.
بيد أنّ الكارثة الكبرى ليست في ضآلة فرص التّوصل إلى حلّ قريب. هي في أنّ هذا الحلّ قد يُوقف الاحتراب، لكنّه لن يوقف انهيار سورية ولن يعالج التدهور القيمي والحضاري الذي كشفت الأزمة السورية، ومثلها
العراقية والليبية، مدى تجذّره في المجتمعات العربية.
أظهرت هذه الأزمات هشاشة الهويات الوطنية وانتشار الجهل وضعف الفكر الحضاري المستنير في عالم العرب. عبر هذا الجهل، المولود من الفشل السياسي والثقافي، تسلّلت المنظمات الإرهابية واستمدّت القوة التي احتاجتها لسرقة ثورات الشعوب ضد القهر والقمع. وُجِد هذا الجهل قبل "القاعدة" و"النصرة" و"داعش"، وسيُنتج ما هو أسوأ منها مستقبلا طالما بقي ردّ الفعل العربي، شعبيا ورسميا، على حاله السلبية والاسترضائية.
قد تُنتج الجهود الدولية والإقليمية المبذولة، ولو بعد سنوات، توافقاتٍ توقف الاقتتال في سوريا وتطرد "داعش" من العراق. لكنّها لن تعالج الآفات المجتمعية التي تدفع بهذين البلدين والعالم العربي برمته إلى تخلّف ما قبل الحضارة الإنسانية.
في هذه الآفات يكمن الخطر الأكبر على المستقبل العربي. فالثقافة الإقصائية التي تكرّس الانقسامات الطائفية والمذهبية والعصبيات الجهوية تنتشر بلا رادع. تروّج لها مناهج تعليمية وممارسات رسمية ووسائل إعلام تحرّض على الرفضوية والانغلاق والخوف من التعددية والاختلاف.
وإلى أن يفيق العرب إلى هذا الخطر ويتحرّكوا لاستئصاله جذريا، سيبقى عالمهم مهيّأ لحدوث انهيارات أكبر، ولتفجّر أزمات أشدّ في دماريّتها من كوارث سوريا وليبيا والعراق.
(عن صحيفة الغد الأردنية 23 آب/ أغسطس 2015)