إذا صح أن هناك لقاءات أميركية – روسية جديدة وفعلية للاتفاق على حل للأزمة السورية المستمرة في استعصائها منذ أربعة أعوام وأكثر، فإن السؤال الذي يجب البحث عن جواب أو أجوبة له هو: ما الجديد الذي جعل البعض يستنتجون أنه عفا الله عما مضى، وأنه «تفاءلوا بالخير تجدوه»؟
وحقيقة، فإن المسألة ليست مسألة خير وشر، ولا مسألة تفاؤل ولا تشاؤم، بل مسألة واقع يجب التعاطي معه دون التحليق في الأوهام التي ثبت أن المراهنات عليها غير مجدية منذ أول محاولة قام بها الضابط السوداني محمد الدابي، مرورا بمحاولة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، ومحاولة الأخضر الإبراهيمي، وصولا إلى محاولة ستيفان دي ميستورا، التي من الواضح أنها ستنتهي إلى ما كانت انتهت إليه كل هذه المحاولات آنفة الذكر.
ومرة أخرى: ما الجديد يا ترى الذي جعل هناك رهانا على أن المأزق السوري بات في طريقه إلى الحل؟!
إذا كان سبب هذا التفاؤل هو المعلومات التي تسربت، والتي من غير المستبعد أن تسريبها قد تم قصدا، عن لقاءات أميركية – روسية، استمرارا للقاءات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في منتجع سوتشي الروسي مع فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، فإن المعروف أن مثل هذه اللقاءات والمشاورات بقيت مستمرة، وهي لم تتوقف إطلاقا منذ انفجار الأزمة السورية - التي غدت على كل هذا المستوى من التعقيد والتداخل - في عام 2011 وحتى الآن مرورا بـ«جنيف 1» و«جنيف 2»، ومحاولات إيجاد حلول كانت كلها كمن يقفز في المكان ذاته دون أن يحرز تقدما ولو بخطوة واحدة.
وهنا، فإن ما يجب معرفته والتأكد منه قبل الذهاب في التفاؤل والأوهام بعيدا هو: هل الروس تحت ضغط المشكلة الأوكرانية، وتحت وجع العقوبات التي فرضها الغرب عليهم بحجة هذه المشكلة، قد أدركوا أن ذهابهم بالشوط بعيدا سوف تكون نتائجه وخيمة، وأن عليهم أن يرضخوا للأمر الواقع، وأن يكتفوا من الغنيمة بالإياب، وأن يلتقوا مع الأميركيين على ما يحفظ لروسيا ماء وجهها، ما دام أنه ثبت أن بقاء بشار
الأسد لم يعد ممكنا، وأنه من الأفضل التركيز على البحث عن حل يمكن الاحتفاظ من خلاله ولو بالبعض «المقبول» من هذا النظام البائس الذي استهلك نفسه، والذي تجاوزته المسيرة التاريخية، ولم يبقَ ما يشبهه في العالم بأسره إلا نظام كيم إيل أون في كوريا الشمالية؟
المعروف أن
روسيا المتحالفة مع إيران لدوافع غدت معروفة ومكشوفة هي مَن أفشل وأحبط «جنيف 1»، وأيضا حل المرحلة الانتقالية عندما رفعت في «جنيف 2» شعار: «إن هناك مستجدات خطيرة، وإن الأولوية غدت، بعد ظهور (داعش) و(النصرة)؛ لمواجهة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية».
وهكذا فقد تم تعطيل هذه المسيرة كلها، مراهنة على إمكانية تفتيت المعارضة السورية، وإفشالها، وانتقال نظام بشار الأسد من وضعية التراجع إلى وضعية التقدم والهجوم، اعتمادا على ما تقوم به موسكو على الجبهة الدبلوماسية، وما تقوم به إيران والتنظيمات المسلحة المذهبية والطائفية التابعة لها على الجبهة العسكرية.
والمعروف أن ما عزز هذا الموقف الروسي، الذي إذا أردنا قول الحقيقة فإنه بدأ مناكفا ومعاندا وسلبيا، والواضح أنه لا يزال مناكفا ومعاندا وسلبيا حتى الآن، هي تلك الميوعة غير المبررة التي استجدت على الموقف الأميركي، موقف الرئيس باراك أوباما تحديدا، والتي أثرت على هذا الوضع بأسره، وحيث كان من الممكن أن تنتهي الأمور لمصلحة نظام بشار الأسد ومن خلفه الروس والإيرانيون، لو لم تكن هناك هذه «الانعطافة» الأخيرة التي تجسد وحدة موقف المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر، ومع هؤلاء بعض الدول العربية.
صحيح أن امتناع روسيا عن التصويت في مجلس الأمن القومي بالنسبة للقرار رقم «2216» المتعلق بالأزمة اليمنية جعل البعض يشعرون بأن هذه «الإيجابية» قد تنعكس على موقف موسكو تجاه هذه الأزمة، وصحيح أيضا أن لقاء سوتشي بين كيري وكل من بوتين ولافروف الذي سبق انعقاد القمة الخليجية – الأميركية، لم يشبه التوتر الذي شاب كل اللقاءات والاجتماعات السابقة منذ عام 2011، إلا أن هذا يجب ألا يفهم على أن الروس قد تخلوا عن عنادهم السابق، وعن إصرارهم على أن الأولوية يجب أن تبقى لاحقا كما كانت سابقا لمواجهة الإرهاب و«داعش» والتنظيمات الإرهابية.
لا شك أن الروس يتفقون مع الأميركيين ومع الدول العربية وبعض الدول الغربية على أنه لا حل عسكريا لهذه الأزمة، والمقصود هنا هو المعارضة كما هو النظام، وأنهم يتفقون مع هؤلاء جميعا على أنه من غير الممكن أن يبقى هذا النظام إلى الأبد كما تريد إيران، لكنهم، أي الأميركيين، ما زالوا يصرون على أن الأولوية لا تزال لمواجهة «داعش» والتنظيمات الإرهابية.
ولذلك فإنهم يرفضون ذلك التأكيد الذي تضمنه بيان القمة الخليجية – الأميركية القائل: «لا وجود للأسد في مستقبل
سوريا»؛ ولذلك فإنهم يتمسكون بتلك الحجة غير الصحيحة القائلة إن البديل لهذا الرئيس السوري، سواء الآن أو على المدى المنظور، ليس المعارضة المعتدلة العاقلة والراشدة والموحدة، وإنما التمزق والفوضى ومزيد من العنف والصراع الطائفي الذي قد يستمر لسنوات طويلة.
وحقيقة، فإن هذه «الافتراضات»، لا تعكس إطلاقا واقع الأمور، فالمعروف، إلا لمن لا يرى أو يسمع، أنه لا يمكن أن يستجد ما هو أسوأ من الأوضاع السورية الحالية، إنْ بالنسبة للتمزق والانهيار، وإنْ بالنسبة لغياب الدولة الواحدة الموحدة المسيطرة وذات السيادة الكاملة، وإنْ بالنسبة للتناحر المذهبي والطائفي، وإنْ بالنسبة للتداخلات الخارجية، وإنْ بالنسبة لكل شيء.
ولذلك، ومرة أخرى، فإنه غير صحيح أن غياب بشار الأسد في هذه المرحلة، وفي هذا الوقت بالذات، سيوقع سوريا في الفراغ، وسيصيبها بالتشظي والفوضى.. فهذا البلد العزيز يغرق الآن في الفراغ حتى ذروة رأسه، وهو يعاني من فوضى أكثر وأخطر من الفوضى التي يعانيها العراق وتعانيها ليبيا والصومال.
ولهذا، ويقينا، فإنه إن لم يبادر الروس والأميركيون ومعهم كل المعنيين بهذا الأمر من العرب ومن عالم الشرق والغرب إلى تطبيق «جنيف 1» بحذافيرها، وعلى أساس ألا مكان لبشار الأسد؛ لا في المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها ولا بعدها، فإن القادم سيكون أعظم، وإن شرر نيران ما يجري في هذا البلد سيصل إلى دول أخرى عربية وغير عربية، إنْ في هذه المنطقة، وإنْ خارجها.
وهكذا، فإن السؤال الأخير بعد كل هذا الاستعراض هو: ألم يكن من الأفضل يا ترى للشعب السوري ولنظام الحكم القائم، في دمشق فقط، وللعرب والعجم والغرب والشرق والأميركيين والروس والأوروبيين، لو كانت تنحية بشار الأسد قد تمت، إنْ بالحسنى أو بالقوة، في بداية انفجار هذه الأزمة أو قبل ثلاثة أعوام عندما لم يكن هناك لا «داعش» ولا «إرهاب»، ولم تكن هناك كل هذه التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية السورية؟!
(نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط)