تجهيل الناس، والاستخفاف بهم، والتلاعب بعقولهم، وعواطفهم، سياسة قديمة، وركيزة ثابتة في دولة الاستبداد، والميدان الحقيقي للمعركة بين عالم الفضائل، وعالم الرذائل، إنما يدور في هذه المساحة، وعليها يقومُ كلُّ كيان مستبد، ويضمن استمراره!!
كلُّ الحركات
الإصلاحية والتنويرية والفكرية، إذا لم تُوَجِّه جهودها إلى هذه الساحة، ستبقى جُزرا معزولة، وجهدا ضائعا، وعبثا ليس من ورائه طائل، ينام المستبد الفاسد فيها ليله، ويسرح نهاره، في حقوق العامة، وهي تهتف له وتفتديه!!
الإبداع الحقيقي للمصلحين -أي مصلحين صادقين- أن يتوجّهوا لوعي الناس.. لقلوبهم..لعقولهم، يسكبوا في آذانهم الحقيقة، التي ينبغي أن يعيشوا بها، وهي أنهم: أحرار.. طلقاء.. مختارون.. بشر.. لا ينبغي لأحد أن يُلغي وجودهم، أو يمتهن إنسانيتهم، أو يبتزّ عواطفهم، أو يحجر على عقولهم.
يجب أن نعلّمهم أنّ لهم حقَّ الاختيار الحُرّ، في كلّ مُجريات حياتهم، وأن لهم شراكة في ثروات
الوطن، وهم وحدهم من يراقبون إدارتها، والمحاسبة عليها، وأن عليهم واجبات، وأنه من أولى واجباتهم أنْ يحترموا رسالتهم، ويَغاروا على تاريخهم، ويعتزّوا برسالتهم، ويبحثوا عن دورهم الحضاري بين الأمم، مستأنفين سيرة إسلافهم من خير القرون، دون قيود، أو موانع، أو خطوط حمراء!!
رأس مال الفاسدين المشبوهين الطارئين على الخط الأصيل للأمة، هو هذا الجهل، وهذا الخنوع، وهذه الغفلة عن: (الذات والدّور، والحقّ، والواجب)!! وواجب كل مخلص أن يبذل قصارى ما يستطيع، لإخراجهم من هذه الحالة، غير أن هذا لن يكون إلا بعد مواجهة صعبة من الكتلة الطارئة المنحرفة المبتزة، حتى يتم إجبارها على تغيير هذا الواقع !!
لقد لخّص الفيلسوف (محمد إقبال) رحمه الله هذه الحقيقة، ببيتين عميقين لا ينبغي المرور عليهما دون توقف، هما:
أحرقَتْ رَغْبَتِي بَلَاهَةَ سوقٍ *** فجاءْتْني مُلُوكُهُ تشتريها !!
نعم إنها الرغبة الصادقة في قلب المصلح أن يجلو من
عقول الناس أسباب البلاهة، والغفلة، والجهل بالحق، ونسيان الدور، ليهدم بهذا سوق المستبدين الرائج، لكن رؤوس الاستبداد دائما حريصة على الإبقاء على هذه الحالة، وتبذل في سبيل هذا أموالا، وتستأجر أقلاما وتشتري ذمما، فهي تحاول منع هذه اليقظة، بمساومة النُخبة المصلحة المنادية بالعدالة، ورفع الظلم، وتحرير إرادة الناس، وإن لم ينفع معها الإغراء، فهي لا بد ستلجأ للعنف لتثبيت هذا الواقع!!
لذا نجد محمد إقبال يهدينا للحل في لحظة المساومة، التي يفتحها المستبدون؛ لصرف المصلحين عن غايتهم، بشراء صمتهم، لترك الناس في غفلتهم، فيقول مُجيبا متساميا على العروض التافهة، والإغراء الرّخيص:
لستُ أشترى سَكْرَةَ المُلكِ غُبْنًا *** بعُبوديتي التي أنا فيها!!
نعم، هذا هو منطق أهل المبادئ الصالحة، والقيم العالية، فهم لا يُغيّرون شعاراتهم، ولا يتراجعون عن رسالتهم في استعادة وعي الناس، وحرق بلاهتهم، لأنهم حين يحرقون بلاهة الناس، يحرّرونهم من جهلهم، وغفلتهم، وهم بهذا الفعل، إنما يمارسون حقيقة العبادة، ويتصفون بصفة العبودية الكاملة لهو، وهي المرتبة التي لا يُضاهيها، أو يكافؤها حكم المستبدين وملكهم كله ثمنا، فلحظة صدق مع الله، يولد معها الإنسان من جديد، حرّا مريدا مختارا فاعلا -كما أراده الله- تعادل كل هذا الملكة(هذا الإغراء ) المعروض على العابد الحقيقي لله مقابل سكوته!!!
أيها المصلحون، قوموا بكلمتكم الصادقة، وجهدكم الخيّر، واقصدوا به الناس في بيوتهم ومساجدهم، ودواوينهم، وشوارعهم، وقدّموا لهم وصفة الحرية، وحدّثوهم عن حقيقة العبودية الكاملة، وأنها لا ينبغي أن تُعطى لأحد من البشر، وإنما لله وحده!!
قوموا افعلوا هذا أولا، ولا تنخرطوا في بوتقة الوضع الفاسد، الذي لا يقدّم غير الوعود، ويكذب فيها كلّ مرة، ولا يسمح إلا بالمساحة تضمن سيطرته، فحينها يلتبِس على الناس الأمر، عندما نقدم لهم المستبدّ -حين نشاركه- بصورة جديدة، يبدو معها لطيفا، وأكثر جمالا!!
قوموا افعلوا هذا، فهو قِبْلَتُكم، وميدانُ عملكم الحقيقي، وإنّ خطوة في هذا الطريق، لتعدل عند الله مليون ركعة، ومليون موعظة، في غير موضعها، وخارج حدود تأثيرها الفعلي!