خلال اكثر من ثلاثة عقود، أتيحت لي بحكم عملي الصحافي والدبلوماسي والأكاديمي، فرص واسعة للتواصل مع قيادات الحركات الإسلامية في كل أنحاء العالم، من نيجيريا إلى السويد، ومن ماليزيا واندونيسيا إلى المغرب، ومن أمريكا وبريطانيا إلى تركيا والهند. فما هو يا ترى الموضوع المشترك الذي كان يبرز في خطاب قيادات هذه الحركات وناشطيها ومفكريها خلال هذه اللقاءات؟ هل هو كيفية ترجمة قيم الإسلام في واقع اليوم؟
كلا. صحيح أن الحديث عن الإسلام وقيمه هو جزء من تعريف هذه الحركات. ولكن مصدر الدهشة عندي هو أن كل ناشط وقيادي ألتقيه كان يبدأ بالتركيز على خصوصية البلد المعني، وكيف أنه يختلف عن كل بلدان العالم الإسلامي الأخرى، مما يستوجب أطروحات ومقاربات مختلفة لمشروع الأسلمة فيه. قبل يومين فقط كنت أستمع إلى أكاديمي تركي شاب وهو يسهب في توصيف الخصوصية التركية، مستشهداً بمقال كتبه مفكر إسلامي تركي مرموق قبل أشهر بعنوان: فشل الكمالية السياسية ونجاح العلمنة الكمالية في تركيا. وبحسب هذه الطرح فإن القبول بالعلمانية في تركيا ميز غالبية الأتراك، حتى المتدينين منهم.
سمعت كذلك عبر السنين عن الخصوصية الاندونيسية والمغربية والخليجية والتونسية، والأردنية، والأوروبية، إلخ… وبالطبع لا نجادل بأن لكل بلد، بل لكل إقليم وناحية في كل بلد، خصوصيته. ولكن الملفت كان التركيز على هذه الخصوصية، بل والاحتفال بها، خاصة في ظل التوقعات السائدة بأن الإسلاميين يروجون لتجاوز هذه «الخصوصيات» باتجاه وحدة وعالمية إسلامية. ولكن هذا يذكرنا ببدهية يغفل عنها الكثيرون، وهي أن كل حركة سياسية واجتماعية هي في الأساس بنت بيئتها، وانعكاس لواقعها. وهذا يفسر فشل الحركات الشيوعية في فرض عالمية بشرت بها، وما شهدناه من انتاج الواقع لشيوعية صينية، وأخرى روسية، وثالثة يوغسلافية، إلخ.، وسط خلافات عميقة، وصلت حد القطيعة والاحتراب.
على هذه الخلفية فإن الجواب المختصر لسؤال العنوان هو ان حركة
الإخوان المسلمين هي حركة
مصرية الهوية والهوى والتكوين، نشأت في مصر، وكانت غالبية عضويتها ولا تزال من المصريين. وكان الشيخ حسن
البنا قد فكر في بداية نشأة الحركة أن ينتقل إلى اليمن ثم إلى السعودية، ولكنه في نهاية المطاف حزم أمره على البقاء في مصر التي وصفها في مذكراته بأنها «زعيم الأقطار الإسلامية» (ورد ذكر «مصر» قرابة مائة وخمسين مرة في مذكرات البنا).
تلخصت رسالة البنا، كما تردد نصوص الجماعة، في «دعوة أبناء الإسلام إلى الالتزام بإسلامهم والترقي في طريق حمل هذا الدين»، إضافة إلى تحمل «مسؤولية توعية الناس بإسلامهم، وكشف مؤامرات العدو والوقوف في وجه هذه المؤامرات»، وسنعود لبعض هذه التفاصيل، ولكن السؤال الأساس هنا هو: مَن مِن المصريين استجاب لهذه الدعوة؟
بحسب معظم تقديرات الخبراء والمراقبين، فإن مجموع منتسبي الحركة وأنصارها عشية الضربة الكبرى التي تلقتها في مطلع العهد الناصري (1954-1955) كانت قرابة نصف مليون. وفي انتخابات 2011 حصد حزب الحرية والعدالة الموالي للإخوان أكثر من عشرة ملايين صوت. ورغم أن أول من استجاب لدعوة البنا كان العمال والحرفيين، إلا أن المد الجماهيري الإخواني انتشر أول الأمر وسط الطلاب والمعلمين، خاصة معلمي اللغة العربية والتربية الدينية، ثم طبقة البرجوازية الصغيرة، وقطاعات من أبناء الريف.
ومن نافلة القول أن الالتزام المسبق بالدين لم يكن الدافع للانضمام إلى الحركة، وإلا لما كان هناك من داعٍ للحديث عن «توعية الناس بإسلامهم».
بل الملفت هو قلة من انتمى إلى الحركة من علماء الدين التقليديين، رغم التعاطف الواسع في فترة لاحقة مع أطروحات الحركة في هذا القطاع. بل إن سبب إنشاء الحركة في الأساس كان اليأس من تصدي طبقة العلماء التقليديين لما وصفه بالمد «الإلحادي» وانتشار العلمنة والتغريب في المجتمع، رغم مناشداته المتكررة.
من هنا يمكن تعريف القطاع الذي استجاب للبنا بما كان يرفضه، لا بما قبله، بداية بالتيار المحافظ التقليدي، الذي كان يرفض موجة التغريب الثقافي والسلوكي الذي ساد وسط الارستقراطية المصرية وخريجي المؤسسات التعليمية الجديدة. كان هذا الرفض ردة فعل غريزية، خاصة وسط أهل الريف والبرجوازية الصغيرة. ولكن الاختراق الحقيقي باتجاه الجماهيرية جاء على خلفية تفجر الأزمة الفلسطينية في منتصف الثلاثينات، وقيادة الحركة وقتها تيار التضامن مع فلسطين، وتناغمها مع المد الرافض للاستعمار والهيمنة والأجنبية، وهو مد تعاظم مع اندلاع حرب عامي 1947-1948 ثم مع الرفض الشعبي للوجود البريطاني في مصر. وقد تزايد تيار الرفض والغضب بعد النتائج الكارثية للحرب مع إسرائيل، وما بدا أنه تقاعس وعجز النظام والقوى السياسية القادمة لواجبات التحرير.
لنفس السبب، فإن حركة الإخوان شهدت تراجعاً في العهد الناصري، ليس بسبب الضربات القوية التي وجهت لها، كما هو شائع، بل لأن عبدالناصر «سرق ثيابها» كما يقول التعبير الإنكليزي.
فقد تبنى العهد الناصري أهم شعارات الحركة المعادية للهيمنة الأجنبية وإسرائيل، وتحقيق النهضة الاقتصادية وتبني قضايا الفقراء. ولنفس السبب فإن الحركة، والتيارات الإسلامية المنافسة شهدت صعوداً كبيراً في عهد السادات، ليس لأنه دعمها كما يشاع أيضاً، بل لأن عهده شهد ردة باتجاه الخضوع للهيمنة الأجنبية والتخلي عن قضايا الفقراء.
فالسادات إنما استغل عداء الحركات الإسلامية التقليدي للعهد الناصري لتحجيم تيارات اليسار في قطاع الطلاب. وما كان لهذا الاستغلال أن يكون ذا معنى وفائدة لو لم يكن التيار الإسلامي قائماً وفاعلاً في الأساس.
لم تكن تيارات السبعينات الإسلامية ذات مرجعية إخوانية في أول أمرها، بل غلب عليها التيار السلفي في أول الأمر، وذلك لعدة أسباب. السبب الأول هو أن عبدالناصر اعتمد في محاربته للإخوان على المؤسسة الدينية التقليدية. وكانت استراتيجية هذه المؤسسة الأساس تتمثل في نشر التدين «السلفي» بمعناه الاوسع، أي خطاب ما قبل الحداثة. وهكذا دأبت على نشر كتب التراث من حديث وتفسير وغيرها، ومؤلفات علماء السلف، وعلى رأسهم الغزالي وابن تيمية. وقد نتج عن هذا توسع تيار التدين التقليدي على حساب الخطاب الإخواني «المسيس». تصادف ذلك مع الطفرة النفطية وهجرة مئات الآلاف من المصريين، خاصة العمال والحرفيين والمعلمين إلى دول الخليج.
كان لهذه الهجرة عدة آثار، أولها انقلاب التراتبية الاقتصادية بين العمال وصغار الحرفيين وبين البرجوازية الصغيرة التقليدية التي كانت تهيمن على المشهد الثقافي. ثاني هذه الآثار تأثر المهاجرين بالتوجه السلفي السائد في السعودية، وهو توجه له جاذبيته في بساطة رسالته في نسختها غير المسيسة، مما هيأ لها القبول وسط الطبقات الشعبية. وفي نفس الوقت، كان النظام يشجع مثل هذا التدين الخالي من التهديد السياسي.
ولكن التيار السلفي لم يكن الوحيد في الساحة، حيث شهدت السبعينات تيارات شبابية في الجامعات، خاصة الجامعات الجديدة في الريف، والصعيد تحديداً، على هامش التيار السلفي، ولكن بأجندة سياسية. وقد نشأت هذه التيارات في غياب حركة الإخوان المحظورة وقتها، ولم يكن لها قيادات خارج السجن والمنفى. ولكن الحركة نجحت فيما بعد في «الاستحواذ» على قطاع واسع من هذه التيارات عبر استقطاب قياداتها البارزة.
يمكن تلخيصاً أن يقال أن حركة الإخوان تكونت في الأساس من قطاعات يوحد بينها رفض الهيمنة الأجنبية وتجلياتها الداخلية في التغريب والعلمنة، والتعاطف مع قضايا المحرومين، (وغالبية عضوية الحركة من خارج الطبقات المتنفذة)، بالإضافة إلى التدين بالطبع.
وهذا يؤكد بأن محاولات «استئصال» هذه الحركة كما تسعى بعض الجهات، هي في حقيقتها حرب من الدولة على قطاع مهم من الشعب المصري، وعلى تطلعات هذا القطاع وقيمه. أي أنها باختصار حرب على مصر من قطاعات تستند إلى مصادر قوة خارجها، تماماً كما في العهد الاستعماري.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)