في 18 آذار/ مارس 2015، دخلت الحرب في
سوريا عامها الخامس، وسجل اقتصادها خسائر خلال السنوات الأربع الماضية نحو 202.6 مليار دولار، وفق تقرير حديث أطلقه "المركز السوري لبحوث السياسات" ومقره في دمشق. وتبرز خطورة هذه الخسائر كونها تعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للعام 2010 (قبل الحرب) بالأسعار الثابتة، وانكشف الاقتصاد السوري على الخارج باعتماده إلى حد كبير على المستوردات الممولة بصورة رئيسة من خلال القروض الخارجية والتسهيلات المالية التي حصل عليها
النظام من بعض الدول المتحالفة معه، وخصوصا من إيران التي لم تبخل عليه بالدعم المالي والعسكري وحتى البشري، وقدرت قيمته بأكثر من 30 مليار دولار.
ومع اشتداد المعارك في مختلف المناطق السورية، وإعادة تخصيص الموارد ورأس المال في خدمة آلة الحرب، وتوسع النشاط في السوق السوداء، وتراجع السيادة وحكم القانون وخسارة الأمن الاقتصادي، فقد أصبح الاقتصاد السوري يعاني من هيمنة التسلط التي تعمل على مأسسة سيطرتها من خلال العنف، من دون إهمال العامل الخارجي المتمثل بالشبكات العابرة للحدود والعصابات المجرمة المرتبطة بالنزاع والتي ظهرت إلى حيز الوجود وراحت تنخرط في الاتجار بالبشر والإساءة إليهم، وهي تقوم بأعمال السلب والنهب والخطف والابتزاز، وتجنيد المقاتلين والاتجار بالآثار التاريخية.
وتوصل التقرير الذي أعده "المركز السوري لبحوث السياسات" بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) إلى نتائج اقتصادية واجتماعية متشائمة، لا تخالف طبيعة الواقع المستند إلى حرب السنوات الماضية، والتي تعزز حالة الاغتراب القائمة بين المواطن السوري في ضائقته الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وقوى العنف والتسلط المنتشرة بكثافة في مختلف المناطق السورية.
ويغطي التقرير آثار الحرب حتى نهاية العام 2014، حيث سجل الناتج المحلي في هذا العام انكماشا بنسبة 9.9%، وتراجعا في الاستثمار، وسجلت تغطية الصادرات للواردات تدهورا حادا من 82.7% في العام 2010 إلى 29.6% في العام 2014، ما عكس العجز التجاري الهائل الذي وصل إلى 42.7%. أما عجز الموازنة العامة للنظام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي فقد بلغ 40.5%، ما أدى إلى إضافة أعباء ثقيلة على الدين العام الذي ارتفعت نسبته إلى الناتج المحلي من 104% في العام 2013 إلى 147% في العام الماضي، وهي نسبة خطيرة تتجاوز النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي في "ميثاق ماستريخت" البالغة 60%، ويقترب معدلها في اليونان التي تعاني من تدهور اقتصادي وإفلاس مالي من 175%، فأصبحت تعتمد على المساعدات الأوروبية.
البطالة والفقر
تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي الذي ارتفع سعره إلى 270 ليرة في ظل تراجع كبير في احتياطي البنك المركزي وهروب عدد كبير من رجال الأعمال والمستثمرين مع ثرواتهم من العملات الأجنبية والتي قدرت بأكثر من 36 مليار دولار، وساهم ذلك في مضاعفة أسعار السلع والخدمات الأساسية، مع تراجع القوة الشرائية للرواتب والأجور، وبالتالي فقدان فرص العمل وارتفاع البطالة التي بلغت نسبتها 57.7% مع نهاية العام الماضي، حيث فقد نحو ثلاثة ملايين سوري عملهم وهم يعيلون نحو 13 مليون نسمة، مع العلم أنه مع توسع "اقتصاد الحرب"، فقد انخرط عدد كبير من الشباب السوريين في شبكات وفعاليات ذات صلة مباشرة بالنزاع المسلح وغيرها من الأنشطة غير المشروعة، وكنتيجة طبيعية لهذه التطورات السلبية تفاقمت مشكلة الفقر، وأصبح حوالي أربعة من كل خمسة أشخاص "فقراء". ويعيش أكثر من 70% من السوريين في حالة سيئة من "الفقر الشديد"، فلا يستطيعون تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية وغير الأساسية، وبات أكثر من 30% من السكان يعيشون في حالة من الفقر المدقع. وبشكل موجز، فقد أصبح الإنسان السوري عاجزاً عن المشاركة الحقيقية في تمثيل أولوياته وتطلعاته في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القادم، وغريباً عن الأهداف والسياسات والعلاقات التي يتم تشكيلها في ظل المؤسسات القائمة وقوى السلطة. وإن ما تفرضه آلة الحرب من اضطهاد وترهيب ساهما في هدر القيم الإنسانية للسوريين وأرواحهم البشرية وحياتهم.
خطة الإعمار
في ظل كل تلك التطورات السلبية، ومع استمرار المعارك العسكرية في مختلف المناطق واتساع رقعة الخراب والدمار، تتحرك حكومة دمشق في خطة إسعافيه لإعادة الإعمار، تشمل صرف التعويضات الخاصة وإصلاح الأضرار العامة، وقد خصصت للعام الحالي مبلغ 50 مليار ليرة سورية (أقل من 200 مليون دولار) وهو مبلغ ضئيل جداً مقارنة مع ضخامة خسائر الحرب التي تجاوزت الـ 200 مليار دولار. ويقول أمين سر لجنة إعادة الإعمار في وزارة الإدارة المحلية إن اللجنة بدأت عملها في العام الماضي، وتم إجراء الكشف الحسي على الأضرار منذ بداية الأزمة، وقامت بتحويل جميع مبالغ التعويضات المستحقة للمتضررين بممتلكاتهم الخاصة إلى اللجان الفرعية في المحافظات، واستفاد منها أكثر من 30 ألف مواطن بمبلغ تسعة مليارات ليرة (نحو 33 مليون دولار)، وتقوم لجنة إعادة الإعمار بالتأهيل الفوري لجميع المرافق الأساسية والخدمية في المناطق التي تم تحريرها من قبل الجيش العربي السوري وأصبحت آمنه، وذلك لضمان عودة الأهالي إليها واستكمال تنفيذ مشاريع الخطة الإسعافي لعام 2014، والبدء بتنفيذ الخطة الإسعافية لإعادة الإعمار لعام 2015.
أما بالنسبة للمعايير التي تعتمدها اللجنة، فتتلخص بالآتي:
1 ـ المنطقة الجغرافية للمشروع ومدى إمكانية تنفيذه في ظل الظروف الأمنية الراهنة، ومدى أهميته في استمرار تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين (محروقات، كهرباء، صحة، ومياه) وتأمين السلع الأساسية.
2 ـ مدى ترابط وانسجام المشروع مع غيره من المشاريع، وبالتالي عدم تنفيذ أي مشاريع مبعثرة في عدة أماكن وغير مترابطة ولا تؤدي إلى إعادة تشغيل مرفق متضرر.
3 ـ دراسة مدى إمكانية تمويل المشروع من الموازنة الاستثمارية للوزارة صاحبة المشروع أو من مصادر تمويل أخرى (خط تسهيل ائتماني إيراني ـ روسي) أو من منظمات دولية.
4 ـ استكمال المشاريع التي تم البدء بها في العام الماضي، والمشاريع التي أدرجت ولم يتم تأمين التمويل لها بسبب قلة الموارد المالية الحالية.
5 ـ الاستمرار في صرف التعويضات عن الأضرار الخاصة بممتلكات المواطنين، ومع متابعة دعم اللجنة العليا للإغاثة بتوفير الأموال اللازمة لاستمرار عملها وتأمين مستلزمات الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
وفي الوقت الذي يعاني فيه التجار والصناعيون من أزمة فقدان النقد الأجنبي بشكل خاص وحاجتهم إلى الاقتراض لتأمين تمويل استثماراتهم في ترميم مؤسساتهم أو بناء منشآت جديدة واستيراد المعدات اللازمة لهم فضلا عن مستلزماتهم من المواد الخام، يلاحظ أن البنك المركزي عاجز عن تلبية المستوردين لتغطية ثمن مستورداتهم بالعملة الأجنبية. وبما أن السوق السوري بحاجة إلى سيولة كبيرة، فقد طالب التجار والصناع ورجال الأعمال الذين ما زالوا يعملون في مختلف المناطق الآمنة في سوريا، المسؤولين وخصوصاً الوزراء المعنيين بالمال والاقتصاد وكذلك حاكم البنك المركزي أديب ميالة، بالبحث في مختلف الوسائل لاستعادة أكثر من 36 مليار دولار، هربت خلال السنوات الماضية إلى الخارج، ومعظمها موظف في استثمارات أو ودائع في بعض الدول العربية ولا سيما في لبنان والأردن ودبي ومصر، والاستفادة منها في تمويل خطة إعادة الإعمار في القطاعين العام والخاص. ولكن هل يمكن أن يتحقق هذا الطلب؟.. وكيف يمكن استعادة تلك الأموال في ظل استمرار الحرب والقتال في أكثر من نصف مساحة سوريا؟
تكفي الإشارة في هذا المجال، إلى أن رأس المال جبان ويبتعد عن الأماكن المضطربة، وغير المستقرة أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويفتش دائماً عن الأمن والأمان والربح المضمون. والأموال السورية الهاربة تنتظر بفارغ الصبر أن يتحقق ذلك، كي تعود وتساهم في ورشة إعادة الإعمار.