الحوثيون

سقوط صنعاء والتحولات الكبرى!!

العديد من القطع العسكرية للجيش استسلمت للحوثيين - الأناضول
العديد من القطع العسكرية للجيش استسلمت للحوثيين - الأناضول
إن قراءة المشهد اليمني الراهن بمعزل عن تداعيات العملية السياسية خلال الثلاث السنوات الماضية، ناهيك عن قراءته دون وضع الخمسة العقود الماضية في الاعتبار يعدُ ضربا من المستحيل، كما أن قراءة الأحداث فيه دون النظر إلى مفاعيل السياسة وتأثيراتها عليه في المحيط الإقليمي والدولي أمر لا يخدم حقيقة ما يجري.

على الرغم من مرور ما يزيد عن ستة عقود على تأسيس الدول العربية الحديثة، الدول التي أخفقت في تأكيد شرعيتها أو بالأصح لازالت دولا سلطانية في جوهرها تستمد شرعية وجودها من استخدام قوة الإكراه والغلبة على شعوبها, ولم تستطع هذه الأنظمة أن تجدد في أساليب ووسائل شرعيتها وفقاً للبناء الحديث للدول, البناء الذي يقوم على الأقناع والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة؛ ومع كل أزمة  داخل هذه المجتمعات كان يحضر "السيد الانقلاب" بوصفه وسيلة التغير الوحيدة، لكنه تغيير لا يلامس مشكلات المجتمعات ويحل أزمتها, بل يستهدف هرم السلطة السياسية, بينما تظل بنيته التقليدية ثابتة في مكانها، ناهيك عن بقاء ذهنية التفكير والفعل السياسي على وضعها السابق.

لقد شهدت الحياة السياسية منذُ 23 يوليو52 أزمة بين شكلين لنظام الحكم، أنظمة حكم جمهورية ناشئة تزداد على حساب أنظمة حكم ملكية تتقلص أو بفعل تحرر بعضها من الاستعمار، ولما كانت أنظمة الحكم الملكية التقليدية إرتكنت على وفرة مالية وطفرة نفطية ؛ فإنها أخذت توظفها باتجاهين : اتجاه استهلاكي داخلي يظهر محاسن الأنظمة الملكية والوراثية، واتجاه تخريبي في الدول التي نحت بحكمها الشكل الجمهوري لإظهار مساوئ الأنظمة الجمهورية، كما أن أنظمة الحكم الجمهورية  ليست بريئة من التآمر على قلب أنظمة الحكم أو السعي إلى قلب أنظمة الحكم الملكية، وكانت جميعها تتم عبر السيد الانقلاب، فلقد نحت ذهنية السياسي العربي منحى غير نبيل، إذ سعى بشتى الطرق والوسائل إلى إظهار مساوئ الخصوم وعلى قاعدة قانون مورفي القائل "إن نظافة شيء يتعلق بإتساخ أخر"، فكان الحكام العرب يظهرون أفضلية حكمهم عبر إظهار مساوئ خصومهم.

هذا الوضع خلق مناخا سياسيا غير صحي، كما أجهض أي إمكانية للتقدم إلى الأمام، لا بل أهدر فيه العرب مقدراتهم على المؤامرة وتكريسها واقعاً سياسياً في تفكيرهم أيضاً ؛ حتى باتت النخبة والنظام السياسي العربي مهووساً بمرض عضال يقوم على المؤامرة، إذ نقلت المؤامرة من حيّز النظرية إلى واقع الممارسة، وصارت نظرية المؤامرة إحدى مفاعيل السياسة التي تستخدم بين الأقطار العربية، كما صارت أيضاً إحدى مفاعيل العمل السياسي داخل الأقطار العربية كلٍ على حده. وصارت نظرية المؤامرة ولازالت ملاذاً آمناً تبرر فشل السياسيين العرب. إننا أزاء مرض سياسي عضال يتطلب جهداً كبيراً للبراء منه .

وبفعل هذا المرض تحولت هذه النظرية إلى الفعل والممارسة اليومية وترزح تحت وطأتها القوى السياسية اليمنية أيضاً، الأمر الذي مثل سرطانا تآكلت بسببه شرعية الحكم "سلطة ومعارضة" وأوصلتها إلى ما نحن فيه.
لقد مثلت انتفاضات الربيع العربي لحظة مفصلية، لحظة كان بإمكانها أن تكون ثورة تغيير للذهنية السياسية القائمة، لكن غياب الحامل السياسي الجديد لها؛ بالإضافة إلى ممارسة التخريب من قبل الدول الكلاسيكية العتيقة في المنطقة لكل محاولات التغيير وتقديم نموذج جديد ومختلف، أجهضها في المهد.

وإذا كانت الدولة حسب علماء التاريخ والاجتماع والقانون جهاز قهر طبقي في خدمة طبقة دون اخرى، وإذا كانت تحتكر الحق العلني في استخدام القوة لحفظ السلم الاجتماعي ـ حسب ماكس فيبر، فإن هذه الوظيفة في ظل الدولة اليمنية المفترضة أصابها الخلل، وباتت القوة منفلتة فيه تستخدم هناك جنوباً وبإفراط ولا تستخدم شمالاً أو لينة ومطواعة، ودولة حروب مستدامة  كهذه معرضة للسقوط في نهاية المطاف، وتتحمل دول الجوار جزءاً رئيسياً من المسئولية، لأنها لم تساعد هذا الشعب على إحداث تنمية فيه، وعاثت فيه وفتت البلد على قاعدة الأضعاف، ولعل كم المساعدات التي ذهبت إلى خلق بؤر الحرب والجماعات المتطرفة كانت تكفي لأحداث استقرار فيه، لكن الإقليم لم يكن يفكر إلاّ بذهنية الحرب والحرب الدائمة.

أن سقوط صنعاء بيد الحوثيين على ذلك النحو الدراماتيكي، يجد تفسيره في ضعف النظام القديم وفقدانه شرعية وجوده، الوجود الذي كان يستمده من حق استخدام القوة، ولقد كانت هذه القوة منفلتة وتفتقر إلى معايير واضحة، وأفصحت الأحداث الأخيرة أنها قوة لم تكن بيد دولة، بل قوة منفلتة بيد مليشيات، وهذا الانفلات أفقدها شرعية استخدامها عند اللزوم، وعليه سرعان ما تهاوت.

لقد جرت محاولات ترميم النظام القديم بالمبادرة الخليجية، ولعل النقيصة الكبيرة فيها هو منح الحصانة، حيث مثلت الحصانة عقبة أمام إقامة الدولة، عوضاً عن أنها سمحت لسلطة المبادرة أن تواصل خرقها للقانون ودون حسيب أو رقيب، كما أن سلطة المبادرة أفقدت النظام وجود معارضة حقيقية وصار من يحكم يعارض أيضاً، لا بل ذهب الخاسرون إلى تقويض المبادرة من داخل الحكم، حتى بات البلد أمام حالة حكم سوريالية لا الحكم حكم ولا المعارضة معارضة.

وما شهده اليمن خلال الشهرين المنصرمين هو زلزال بكل ما تعنيه كلمة زلزال من معنى، ويمكن أن يتحول هذا الزلزال إلى تسونامي مدمر، إذا ما رفض الجوار الاقليمي أن يتعامل معه بإيجابية، لأن الجوار الاقليمي يحتاج إلى برستوريكا سياسية تعيد ترتيب وتأثيث الذهنية السياسية القائمة أو استبدالها بذهنية سياسية أخرى مغايرة. فلقد درج العرب منذُ تشكل دولهم الحديثة على ممارستها وفق رؤية تعتبر قوة دولها يتحقق في ضعف الدول المجاورة، ولذا درجوا على إضعاف بعضهم البعض وتخصيص مقدراتهم وإمكاناتهم المادية على زعزعة أمن بعضهم البعض.

ولقد عانى اليمن الأمرين من سياسة جيرانه التي قامت على أساس ذهنية الأضعاف الآنفة الذكر، وأخذت دول الجوار تنفذها من خلال إضعاف قيام دولة فيه، وذلك عبر دعم وجاهات وشيوخ قبائل، الأمر الذي قاد في نهاية المطاف إلى قيام نظام حكم " كليبتوكراسي" (Kleptocracy) كما وصفه المفكر السياسي الأمريكي المهتم بالشأن اليمني بوب روبرت بروز؛ يمعنى نظام حكم اللصوص وباللصوص ومن أجلهم.

أن تسونامي اليمن القادم عبر رياحه الشرقية، أخذ يجرف معه الرياح الصغيرة في طريقه، ويصطدم بالرياح القادمة من شماله، وما يجري في اليمن تحوّل كبير وجذري على هذه الأرض، يشبه إلى حدٍ ما؛ ما حدث في بداية الستينيات، 26 سبتمبر تحديداً، تلك الحركة التي أريد لها أن تكون ثورة وباتت لاحقاً ثورة مجهضة.

واحدة من مشكلات البلد ( الجمهورية اليمنية)، أنها دولة تأسست على أنقاض حكمين شموليين (نظام الجمهورية العربية اليمنية ونظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) وظلت تدار بعقليات شمولية ولازالت، وهذه العقليات مهووسة بنظرية المؤامرة من كثر تآمرها على بعضها البعض، حتى باتت السياسة حقلا للمؤامرات والمؤامرات المضادة.

وهناك مشكلة أخرى تعاني منها النخب السياسية تتمثل في استمرار النخب بيع ضميرها للخارج الاقليمي والدولي، وعليه فالنخب المنهزمة تؤدي إلى بلد مهزوم بالضرورة وهذا ما حدث في اليمن، إذا لم يتم تغيير نخبه المنهزمة، فإن هذا الانهزام سينسحب على غياب وعي الدولة في رؤوس مواطنيها.

إن أولى المهمات العاجلة اليوم هي أن يساعد الإقليم على إقامة الدولة، وإذا كان خروج البلد من تحت نير العمالة والارتهان أحد أهداف  الثورة الراهنة، فإن دول الجوار مطالبة بأن تساعد في تحقيق ذلك وعلى ضمان أن لا تقع في ارتهان أخر.

ولقد بدأت معضلة هذا البلد في 22 يونيو 1969م جنوباً يوم أزيح الرئيس قحطان الشعبي وفيصل عبداللطيف الشعبي الذي أغتيل لاحقاً في السجن وقيل أنه انتحر، وشمالاً منذ 11  أكتوبر1977م (يوم اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي)، ذلك العام الذي مثل نقطة تحول وتكريس للمؤامرة، المؤامرة التي أخذت تنسج خيوطها في حقل السياسة وتتوطد في دهاليزها.

ولا يمكن تعافي البلد سياسياً دون تعافي دول الجوار الاقليمي سياسياً، فلم تعد نظرية المؤامرة مجرد نظرية، فلقد تغلغلت في مفاصل الفعل السياسي وصارت شرعة السياسيين وأداتهم الأثيرة في إدارة شأن بلدانهم وفي إدارة شأنهم الداخلي، وهي تحضر كأداة تبرير الفشل السياسي أيضاً.

لذلك فإن سقوط صنعاء كان تحصيل حاصل أمام وضع كهذا، فالشرعية المتآكلة نخرت مفاصل الحياة السياسية كلها بما فيها شرعية الأحزاب ذاتها، فالأحزاب باتت تفتقر للشرعية الداخلية، إذ أن بعضها لم يعقد مؤتمراته منذُ عقد من الزمن، وأمام حالة كهذه، حالة فقدان شرعية مهدت إلى سقوط العاصمة، إذ مثّل سقوطها صعود  شرعية جديدة، لكنها لم تشذ عن كونها شرعية قوة صاعدة، وكشفت تصريحات الناطق الرسمي للحوثيين محمد عبد السلام الأخيرة أن "تسليم صنعاء" تم "بالتوافق" مع ثلاث قوي رئيسية هي: الرئيس هادي ووزير دفاعه، وقيادات الإصلاح، وعلي عبدالله صالح وجناحه في المؤتمر، وبعد اتصالات وتفاهمات مع هذه الجهات .. هؤلاء هم من سلموا صنعاء للحوثيين في 21 سبتمبر 2014، تجنبوا بهذا الإجراء الدخول في حرب أهلية طاحنة.

المطلوب الآن أن يتعامل الاقليم والعالم مع هذا البلد بذهنية سياسية جديدة، تضع مهمة قيام الدولة في سلم أولوياتها، وتكف عن دعم الجماعات والمليشيات المسلحة والأفراد وشيوخ القبائل، وتحترم خياره في سيادة قراره.

* أستاذ الفلسفة ومناهج البحث- جامعة عدن
التعليقات (0)