حين كان
مجلس الأمن يقر وبالإجماع القرار 2139 المتعلق بالمساعدات الإنسانية إلى سورية كان الوضع في أوكرانيا يتدهور إلى درجة الإفلات من رقابة الكرملين. أغلب الظن أن موقف المندوب الروسي فيتالي تشوركين كان سيتغير لو أرجئ النقاش إلى الأيام التالية.
من يتابع طريقة التفكير في مطبخ القرار في موسكو يدرك حجم ما جرى في كييف. لا يعتقد أفراد هذا المطبخ أن ما يحدث هناك هو سلسلة من ردود الفعل «البريئة» على سياسات حليفهم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الذي انتهى النهار بإعلان عزله. يعتبرون ما جرى مؤامرة غربية حيكت بعناية لتوجيه صفعة إلى الدور الروسي الذي عاد بقوة إلى الساحة الدولية. يضاعف من إيلام هذه الصفعة أنها وجهت في الحديقة الخلفية وعلى حدود الاتحاد الروسي وفي بلد لا يزال الأسطول الروسي يرابط في بعض موانئه.
ثم إن الصفعة موجهة إلى فلاديمير
بوتين الذي كان يحتفل بأجمل أيامه عبر الألعاب الأولمبية في سوتشي. الرئيس الوافد من صفوف الـ «كي جي بي» لا يستطيع إلا أن يشم رائحة مؤامرة خصوصاً وأنه كان قاد شخصياً الصفقة الكبرى المكلفة التي دفعت يانوكوفيتش إلى إدارة ظهره للشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وخطوة يانوكوفيتش هذه كانت الشرارة المباشرة التي فجرت المواجهات.
لا يستطيع بوتين التعامل مع أحداث أوكرانيا باعتبارها مجرد رغبة في إطاحة من تسميه المعارضة «الديكتاتور». ولا يستطيع الاعتقاد أن الاحتجاجات ترمي إلى قيام ديموقراطية فعلية وسياسة اقتصادية مختلفة. تعامل دائماً مع أوكرانيا بوصفها ساحة يحاول الغرب التسلل إليها في سياسته لتطويق روسيا عبر حلف الأطلسي أو أنظمة تدور في الفلك الغربي. قرار الجيش الأوكراني عدم الانخراط في النزاع الداخلي حرم موسكو من ورقة ضغط رئيسية.
تحمل أوكرانيا في جسدها وروحها ندوب الجغرافيا والتاريخ معاً. ندوب فرارها من السجن السوفياتي وبقائها على تخوم الاتحاد الروسي. تحمل أيضاً ندوب الحروب التي دارت على أرضها. ولعل هذا يفسر كيف وضع النهار الطويل البلاد على حافة الانقسام بين الراغبين في النوم على الوسادة الروسية والراغبين في اعتناق الوسادة الأوروبية. أيقظت الأحداث أزمة هوية في هذه البلاد وأيقظت خط تماس داخلي فاتحة الباب لتحويل أوكرانيا خط تماس بين روسيا والغرب. لا روسيا تستطيع غسل يديها من المصير الأوكراني ولا الاتحاد الأوروبي يستطيع.
لنترك جانباً أوجه التشابه والاختلاف بين الأزمتين الأوكرانية والسورية لنتوقف عند خيط قوي مشترك بينهما وهو صعوبة العثور على حل في أي منهما من دون موافقة فلاديمير بوتين. استدرج مشروع القرار الأخير روسيا إلى امتحان إنساني في الكارثة السورية. كان من الصعب على ممثل موسكو اللجوء هذه المرة أيضاً إلى سيف الفيتو.
حرص تشوركين على تنظيف مشروع القرار من أي عبارة تتيح اللجوء إلى إجراءات رادعة من دون العودة إلى مجلس الأمن. لكنه مرر في المقابل مسألة مرور المساعدات الإنسانية إلى سورية عبر الحدود مع الدول المجاورة. وهي مسألة تعارضها سورية وترى فيها انتقاصاً من سيادتها. كما مرر انتقادات أخرى موجهة إلى النظام تطالبه بوقف إجراءات الحصار والغارات على المدنيين واستخدام البراميل المتفجرة. وثمة من رأى في الموقف الروسي محاولة لتذكير النظام بضرورة إبداء قدر من المرونة في التعامل مع الجهود لحل سياسي خصوصاً بعد موقفه المتشدد في مفاوضات جنيف وتحميله مسؤولية توقفها.
لا مبرر للإفراط في الرهان على القرار الإنساني لمجلس الأمن. ولا مبرر في المقابل لإنكار أي أهمية له. المعركة طويلة أصلاً. جديدها احتمال تشابك الملف السوري مع الملف الأوكراني. ثمة من يعتقد أن بوتين أصيب في أوكرانيا. وأن الصفعة الأوكرانية ستضاعف رغبته في التشدد في الملف السوري. وهذا يعني تمسك النظام السوري برهانه على الحل العسكري. ويعني أيضاً لجوء خصومه إلى عرقلة حلمه هذا بتقديم مساعدات للمعارضة لا تهدف إلى الانتصار بل إلى ضمان موقع معقول لها على طاولة المفاوضات. يزداد المشهد صعوبة وقتامة. فشل العالم في إقناع بوتين السوري فكيف سيتمكن من إقناع بوتين الأوكراني - السوري؟.
(الحياة اللندنية)