هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت السفارة الأمريكية منشورا بصفحتها الرسمية على الفيسبوك يوم 20 مايو، وأنفقت على المنشور لكى يصل لأكبر عدد من رواد الموقع. وإليك نص المنشور «قم بالاطلاع على تقرير رويترز الذى يفيد بأن 300 ألف طن من القمح الأوكرانى الذى تم حجزه من قبل مشترى الحبوب التابع للحكومة المصرية لتسليمه فى فبراير ومارس، لم يتم شحنه بعد، وأن سفينة شحن واحدة تم تحميلها وعالقة الآن فى الميناء، وفقا لرواية التجار. روسيا تقوم بقصف الحقول الأوكرانية وتدمر أنظمة التخزين والنقل فيها. إن أفعالها تهدد الأمن الغذائى العالمى، حيث تتعرض بلدان فى أفريقيا والشرق الأوسط لخطر كبير». مضت أيام قليلة بعد هذا المنشور، وفى يوم 25 مايو أعلنت اليونان أنها ستنقل حمولة ناقلة بترول تحمل 115 ألف طن من النفط الإيرانى إلى الجانب الأمريكى. وكانت اليونان احتجزت ناقلة النفط الروسية – لانا، يوم 19 إبريل الماضى، وذلك تنفيذا لعقوبات صادرة من الاتحاد الأوروبى على خلفية الغزو الروسى لأوكرانيا. واحتجت إيران على مصادرة حمولة السفينة التى تخصها، واعتبرت ذلك دليلا على القرصنة الأمريكية. فإذا كانت أمريكا تتهم روسيا بتهديد الأمن الغذائى العالمى، فإن الولايات المتحدة نفسها تهدد السلم الإقليمى بما تقوم به من ممارسات تضر بمصالح بعض دول الشرق الأوسط، كما تهدد السلم العالمى بما تقوم به من جهود لإطالة أمد الحرب الأوكرانية.
وإليك أول تبعات تراجع السلم والأمن فى الشرق الأوسط، فلقد ردت إيران بدورها على اليونان واحتجزت ناقلتى نفط بعد خروجهما من ميناء عربى يوم 27 مايو. وقالت إيران إنها احتجزت الناقلتين اليونانيتين بسبب انتهاكات ارتكبتها فى مياه الخليج. واقتادت البحرية الإيرانية الناقلة «دلتا بوسيدون» التى كانت ترفع العلم اليونانى نحو سواحل إيران، وهى محملة بشحنة من النفط فى ميناء البصرة بالعراق. ثم اقتادت الناقلة «برودينت وريور» التى ترفع علم اليونان، وأجبرتها على الإبحار نحو سواحلها. واحتجت اليونان على تصرف إيران لكن دون أن يغير ذلك من الواقع شىء. وهذه الهجمات والاتهامات المتبادلة التى تقودها الولايات المتحدة لتأديب روسيا على عملية أوكرانيا لن تسفر عن عالم أكثر أمنا. بل لا نبالغ إذا قلنا إن تبعات ما يجرى تحمل فى طياتها إرهاصات حرب عالمية ثالثة.
ولعل تعليق الرئيس بوتين على المشهد العالمى الآن والذى جاء فى مؤتمر صحفى يوم الخميس 26 مايو يفصح عن ذلك، حيث قال «لم يعد يوجد أى شرطى عالمى يمكنه أن يمنع البلدان من انتهاج سياسة مستقلة». وأضاف: «لا ينحصر الأمر فى روسيا والصين فحسب، بل فى أن المزيد والمزيد من بلدان العالم تريد، وستقوم بممارسة سياسة مستقلة. ولا يمكن لأى شرطى عالمى وقف هذه العملية.. وفى مواجهة المشكلات داخل بلدانهم ــ يقصد مشاكل الغرب الداخلية ــ سيدركون أن هذا لا آفاق له على الإطلاق. سرقة ممتلكات الآخرين لم تجلب سابقا لأحد الخير». وهو اتهام صريح للغرب بسرقة مقدرات الشعوب والتسبب فى أزمة غذاء عالمى، كل ذلك فى سبيل تحقيق منظومة الأمن الغربية التوسعية التى لا تتوانى عن ضم الدول للناتو بغض النظر عن أى تبعات.
أدرك السياسى المخضرم هنرى كيسنجر بحسه الواقعى ما تحمله هذه التبعات من تحديات مستقبلية، وشدد فى حديثه أمام منتدى الاقتصاد العالمى فى دافوس يوم 23 مايو الحالى «على ضرورة أن يبدأ الجانبان الروسى والأوكرانى مفاوضات فى الشهرين المقبلين قبل أن تحدث اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة، مشيرا إلى أن الموقف المناسب لأوكرانيا هو أن تكون دولة محايدة، لا جزءا متكاملا من أوروبا». وهذا بالضبط ما تطلبه روسيا. وأضاف كيسنجر: «يجب أن تتخلى أوكرانيا عن جزء من أراضيها ــ يقصد شبه جزيرة القرم، للتوصل إلى اتفاق سلام مع روسيا ينهى حرب الأشهر الثلاثة، محذرا من أن الفشل فى إحياء المفاوضات مع موسكو، والاستمرار فى استعدائها ستكون له عواقب وخيمة على أوروبا على المدى الطويل». وطالب كيسنجر الدول الغربية بعدم الانجراف وراء مزاج اللحظة لأن مواصلة الحرب على هذا النحو لن تقتصر على الحرب فى أوكرانيا ولكن ستتوسع إلى مواجهة شاملة مع روسيا. وهذا سيدفع روسيا أكثر باتجاه الصين، وسيجعل مواقفهما متطابقة ضد الغرب فى قضايا عدة. وما قاله كيسنجر هو تذكير للغرب بأن روسيا جزء من معادلة الأمن الغربية، وساهمت على مدى 400 عاما فى عملية توازن القوى لاسيما فى الأوقات الحرجة. ومن ثم ابتعاد روسيا عن الغرب، واقترابها من منظومة الأمن الأوروأسيوية، سيدفع روسيا لتحالف أوثق مع الصين، مما يشكل تغييرا شاملا فى نظرة روسيا للغرب، والناتو، والتهديدات الأمنية المستقبلية. وبدوره انتقد الرئيس الأوكرانى يوم 26 مايو تصريحات كيسنجر، قائلا: «مهما فعلت الدولة الروسية، ستجدون دوما شخصا يقول: دعونا نأخذ مصالحها فى الاعتبار». وتابع «يتكون لديكم انطباع بأن تقويم السيد كيسنجر لا يشير إلى عام 2022 وإنما إلى عام 1938، وأنه يعتقد أنه يخاطب جمهورا ليس فى دافوس وإنما فى ميونيخ فى ذلك الوقت». وفى هذا تشبيه بين ما يفعله بوتين فى 2022 وما فعله هتلر فى 1938، الذى لا يجب التنازل أمامه طبقا لما قاله الرئيس الأوكرانى.
الخلاصة، تداعيات التباين فى قراءة المشهد بين روسيا والغرب ستصل فى غضون أشهر قليلة إلى نقطة اللاعودة. وأول التداعيات هى فتح الباب لإعادة تشكيل التحالفات بطريقة تغير حالة التوازن فى العالم. وروسيا تراهن على توسع حالة التمرد على منظومة الأمن الغربية، وتدرك أن إطالة أمد الحرب على مدى الأشهر القادمة سيجعل دولا أكثر تعيد حساباتها، وقد يزيد ذلك من حالة التمرد فى النظام الدولى ويزعزع الترتيب العالمى القائم. وفى ظل هذه الأجواء تتوثق علاقات روسيا والصين، وتتطور مصالح الصين بطريقة مطردة. ولذلك تتشدد الولايات المتحدة فى تصريحاتها ضد الصين حول موضوعات شائكة مثل ضم تايوان أو عودتها إلى الوطن الصين الأم. وهذه الحالة وصلت للشرق الأوسط. وفى غضون الأسابيع القليلة القادمة، من المتوقع قيام الرئيس الأمريكى باستباق الزيارة الصينية المرتقبة للمملكة السعودية. ويأتى السباق إلى الرياض لمحاولة ترميم العلاقات الأمريكية السعودية التى تضررت بشدة بسبب سياسة أمريكا تجاه ولى العهد السعودى. وعلينا متابعة ما ستسفر عنه الزيارة. كما علينا متابعة الدعوة الصينية لضم ثلاث دول عربية إلى البريكس وهى مصر والإمارات والسعودية. فكلما بعدت السعودية عن الولايات المتحدة واقتربت من الصين، كلما زادت مخاطر زعزعة الأمن فى الشرق الأوسط عبر إجراءات عقابية أو عبثية من الولايات المتحدة.
(الشروق المصرية)