كتب

من مسار التحولات الجذرية في تاريخ الديانة المسيحية الغربية

الإصلاح الديني المسيحي، لن يُفهم ما لم تُضبط مفاهيمه بدقة وما لم يُنظر في سياقاته الحضارية
الإصلاح الديني المسيحي، لن يُفهم ما لم تُضبط مفاهيمه بدقة وما لم يُنظر في سياقاته الحضارية

الكتاب: الإصلاح الديني: قراءة المفهوم في التجربة المسيحية الغربية
الكاتب: عامر عبد زيد كاظم الوائلي
الناشر: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية ـ العتبة العباسية المقدسة، ط1، 2018.

1 ـ إشارات لا بدّ منها


يقدّر الباحث أن الإصلاح الديني المسيحي لن يُفهم الفهم العميق ما لم تُضبط مفاهيمه بدقة، وما لم يُنظر في سياقاته الحضارية وتاريخه الطويل. فيعرّفنا بالإصلاح على مستوى المفهوم باعتباره تقويم القائم المعوج وإزالة ما يعتريه من خلل ونقص وفساد لتغيير الأحوال من السيئ إلى الأحسن، ومن المخالفة إلى الالتزام والاستقامة. فيهدف إلى معالجة بعض المشاكل والأخطاء الجادة، ويعمل على تحسين النظام القائم دون المساس بمقوماته، أو العمل على الإطاحة به بالمجمل. 

ولأنه لا يعتمد على العنف منهجا، ولا الاستعجال طريقا يقابل مفهوم الثورة، التي تسعى إلى التغيير الشامل أو الجذري، وتقوم على العنف والتغيير السريع. أما على المستوى الحضاري والتاريخي، فقد ارتبط بالحركات الدينيّة التي انتشرت في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، فقد كانت تدعو إلى إصلاح الكنيسة، وتخليصها مما بدا لها شوائب وممارسات خاطئة من رجال الدين، ولكنها لم تنتفض على جوهر الديانة المسيحية، أو أن تنكرها كالوجودية الملحدة التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين على سبيل المثال. فناهضت احتكارها لتفسير أحكام الدين بما يخدم رجالها، وعارضت منحها لصكوك الغفران وتجييشها لعواطف المؤمنين لمقاومة كل نقد موضوعي يطالها.

2 ـ دوافع الإصلاح الديني في المسيحية الغربية

اجتمعت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر عوامل عديدة فرضت الإصلاح الديني في أوروبا. فعلى الصعيد السياسي، تحوّلت العلاقة بين الدولة والكنيسة إلى صدام بعد تزايد نفوذ الملوك وتهديدهم لسلطة البابا. وكانت سلطته قد توسّعت كثيرا منذ 1075 لما أصدر جوريجوري مرسوما يقضي بإلغاء التقليد العلماني الذي يعيّن فيه الحكام رجال الدين من كهنة وأساقفة في وظائفهم الكنسيّة، فأضحى الخاتم والصولجان في يده. وهذا ما يسّر له وللكنيسة الهيمنة على مختلف مظاهر الحياة الدينية والسياسية. 

وغدا صاحب حاكميّة أورثته صلاحيات المسيح المنصوص عليها في إنجيل متّى، فقد ورد فيه على لسان المسيح قوله: "أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وقُوَّاتُ الجحيم لن تقوى عليها، وأُعطيكَ مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون قد رُبط في السماء، وما تحلُّه على الأرض يكون قد حُلَّ في السماء". واكتسب بذلك سلطة مطلقة متعاليّة على النقد. وكان على رجال الإصلاح الذين ظهروا في ألمانيا أولا، أن يتحالفوا مع الملوك أو الأمراء من أجل مواجهة هذه الانحرافات. ثم اعتنق كثير من الأوروبيين مبادئها وتحوّل الإصلاح إلى مطلب جماهيري.

وأسهمت أسباب اجتماعيّة وتقنيّة في بلورة هذه الدعوات؛ فقد كانت الكنيسة تمنع ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغات الأوروبية، فعزّ على من لا يحسن اللغة اللاتينية قراءته. ثم انتشرت الطباعة وأضحى الكتاب المقدّس المترجم في متناول الجمهور، بعد أن كان لا يتمثله إلا من خلال رجال الدين لعسر الوصول إليه، فبدأوا يفقدون العناصر المدعّمة لاحتكار فهمه ولتفسيره بما يتماشى مع مصالحهم.
 
3 ـ الأزمات الأخلاقيّة والعنف لدى الكنيسة 

يجعل التّدين من سير القديسين والآباء رموزا للطهارة والتقوى اللتين مثّلهما المسيح، وورثهما عنه الحواريون والآباء. ولكن انحرفت الكنيسة عن دورها وانشغلت بالعمل على فرض سلطانها. ومنعت الخروج عنه واعتبرت الاحتجاج عليه رفضا للمطلق العلوي، واحتكرت دور الوساطة بين الرّب والمؤمنين باعتماد العنف؛ فَسَادَ الفسادُ الأخلاقي والتشريعي، فانصرفوا إلى مباهج الحياة الدنيا بحثا عن العيش المرفّه، وأداروا العقارات الكثيرة لمصلحتهم الشخصية متسترين بصفاتهم الدينية، وانتشرت ظاهرة صكوك الغفران التي تبتز المساكين، وتلطّخت سمعة الكثير من الآباء بما لا يليق بـ"الحبر الأعظم"، كأن ينسب البعض لإسكندر السادس عددا من الخليلات.

ولم تكن الحياة المحيطة بمنصب البابويّة تخلو من الصراعات الداخليّة ومن المكائد. ولعلّ هذا ما جعل دانتي في القرن الثالث عشر الميلادي في" الكوميديا الإلهيّة"، وفي رسالته الملكيّة، التي ألًّفها باللغة اللاتينيّة، ينعى العالم لانحرافه عن السبيل الذي أرادته العناية الإلهيّة للناس، ويقدّر أنّ البابويّة قد أفسدتها الصراعات. وضمن عملها على فرض رؤيتها للدين، عارضت العلماء ونكّلت بهم وناهضت كل تطوّر، وأقصت كل من يختلف معها ومع تأويلها الأيديولوجي.

4 ـ الصراع بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة وأثره في الإصلاحات الكنسيّة

شهدت الكنيسة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي حركة إصلاح شملت إصلاح المؤسسة البابويّة، وإصلاح المسلك الكهنوتي، ومنع العلمانيين من استثمار المراكز الدينيّة. وكانت تستهدف فرض سيطرتها على مؤسساتها أولا، وإخضاع السلطة السياسيّة لسلطانها ثانيا. وتم لها ذلك كما أسلفنا الذكر. ولكن خمسة قرون كانت كافية لظهور قوى مضادة لها لتدافع عن مصالحها الخاصة التي لا تتوافق مع الوضع القائم؛ فقد اصطدم بروز الطبقة البرجوازيّة بصفتها طبقة صاعدة في هرم التراتبية الاجتماعية تنافس النبلاء والإقطاعيين، بهيمنة الكنيسة على الحياة الاقتصادية.
 
ويعود صعود البرجوازيّة خاصة، إلى حركة الاكتشافات الجغرافيّة التي أسهمت في ازدهار تجارة التوابل والبهارات والمعادن والسكر والعاج، عبر الطريق من أوروبا إلى الهند بحرا حول أفريقيا، مرورا برأس الرجاء الصالح، ثم اكتشاف العالم الجديد؛ ففتح آفاقا جديدة وعصف بالبناء الطبقي القديم في المجتمعات الأوروبية، وغذّى التنافس بين أصحاب المصالح الجدد نزعاتٍ قوميّةَ تتمرّد على سلطة الامبراطور والبابا، وأخذت الدول تعمل على ضمان الدول لاستقلالها الماليّ عن الكنيسة، وتبني قوات مسلحة خاصة بها للسيطرة على أراض جديدة ولإضعاف العالم الإسلامي والقضاء على قوّته، والتخلص من هيمنته على تجارة التوابل.

 

كانت المؤسسة الدينيّة الإنجليزيّة التابعة للكنيسة العالميّة تستعد للانخراط في قتال الملك تنفيذا للقرارات التي أصدرها البابا، وأمرت مدير جامعة إكسفورد بتنفيذ أمره القاضي باعتقال ويكليف، ولكنها قوبلت برفض الجامعة الانصياع للسلطة البابوية، متحصنة باستقلالها العقلي وحريتها الأكاديمية.

 



وكان الفلاحون يعيشون على هامش هذه المنظومة الاقتصادية، وتفرض عليهم الرسوم والمكوس الثقيلة. وكانوا يواجهونها بالثورات كما حدث في إنجلترا في عهد الملك ريتشارد الثاني احتجاجا على ضريبة الرؤوس. أما على المستوى الفكري، فتدعمت الحركة الإنسانويّة (Humanisime)، وهي نزعة تهتم بإحياء التراث العقلي اليوناني والروماني القديم، ومن منطلقه كانت تقاوم الاضطهاد وتطالب باحترام الكرامة الإنسانيّة، وتجرؤ على نقد الكنيسة وتحرّض على الإصلاح.

5 ـ رواد الإصلاح الديني الأوروبي

يعرض الكتاب نماذج من هؤلاء ويبسط سيرهم، نكتفي بذكر بعضهم:

أ ـ المصلح الإنجليزي جون ويكليف(Wyclef Jean)، وهو الرجل الذي وضع أغلب مقولات الإصلاح الديني تنظيرا وتطبيقا، من ذلك تشكيكه في أحقيّة الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، واعتباره أنّ القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه، ومال إلى إقصائه عن عضويّة الكنيسة بمفهومها الحقيقي، الذي يعني مجتمعَ المؤمنين الصالحين الذين قدّر لهم الرب سلفا الخلاص. وناهض السماح لوكلاء البابا بجمع الأموال من الأبرشيات الإنجليزيّة لبابا فرنسي، ولمجلس من الكرادلة أغلبه من الفرنسيين. والحال أنّ الخزانة الإنجليزيّة تكاد تكون خاوية وأنّ فرنسا كانت وقتئذ تستعد لغزو إنجلترا، مؤكدا "أن البابا لا يستطيع أن يطلب هذا المال إلا على سبيل الصدقة، ولما كان أهل البلاد أولى من غيرهم بهذه الصدقات، فإن توجيه صدقات الدولة إلى البلاد الخارجيّة إذا كانت البلاد نفسها في حاجة إليها، يخرج بها عن نطاق الصدقات ويجعلها حماقة وبلاهة". وأوصى باستقلال إنجلترا الكنسي.
 
وكانت المؤسسة الدينيّة الإنجليزيّة التابعة للكنيسة العالميّة تستعد للانخراط في قتال الملك تنفيذا للقرارات التي أصدرها البابا، وأمرت مدير جامعة إكسفورد بتنفيذ أمره القاضي باعتقال ويكليف، ولكنها قوبلت برفض الجامعة الانصياع للسلطة البابوية، متحصنة باستقلالها العقلي وحريتها الأكاديمية.

ب ـ جون هاس (John Hus) من جنوب غربي بُوهِيميا، جمهوريّة تشيكيا الآن. عُدّت أفكاره الإصلاحيّة امتدادا لأفكار أستاذه جون ويكليف. نشر مواعظه المطالبة بالإصلاح الديني في براغ، ودعا إلى إصلاحات جوهرية في نظام الكنيسة منتقدا فساد الأنظمة القائمة. ولكنه استُدرج بخدعة إلى روما فسُجن مدّة ثم أُحرق بتهمة الهرطقة.

ت ـ عارض كالفن (Calvin،jean) الإصلاحي الفرنسي العنف الرمزي والجسدي الذي تتخذه الكنيسة بحق خصومها أو المنشقين عنها، ودافع عن الخارجين عنها، وتبنى فلسفة تقول بالقضاء والقدر تدعو إلى قيوميّة الله على العالم، وتنكر مذهب وحدة الوجود لقولها بشخصانيّته وعلوه عن العالم، وتنكر حريّة البشر. فبمعرفة الله نعرف أنفسنا، ومعرفته تفرض تقواه وعبادته وطاعته.
 
وبعد أن عاش مطاردا من الكنيسة والسلطات، يتنقل بين ستراسبورغ وبازل وزيورخ. استتب له الأمر في جنيف. ولكنه انتهى بدوره إلى طاغيّة مستبد يرتكب أبشعَ الجرائم باسم الدين، ويحرق من يختلف معه في الاعتقاد.

6 ـ تفاعل الكنيسة مع دعوات الإصلاح

هيمنت أعمال العنف على حركات الإصلاح في ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وشكلت الكنيسة مجلسا من الكرادلة كُلف بالإصلاح المؤسسي؛ فحاول في دوراته الأولى أن يثبت على مواقف الكنيسة من اعتماد الترجمة اللاتينيّة للإنجيل وإصدار صكوك الغفران واعتبار الكتاب المقدّس والتقليد المتوارث من آباء الكنيسة المصدرين الصحيحين للإيمان الكاثوليكي، اللذين تمتلك الكنيسة الحق الحصري في تفسيرهما. 

ثم أخذ يقترب من الإصلاح وقبول الآخر؛ فأصدر مراسيم ضمن ما عرف بالإصلاح المضاد في محاولة لاحتواء الانشقاقات الداخليّة، تتعلّق بقضايا فساد بعض الأساقفة والكهنة، وصكوك الغفران، والتجاوزات الماليّة الأخرى. ولكن لمّا استتب الأمر لرجال الإصلاح، لم يختلفوا عن الكنيسة التي خرجوا عليها؛ فبرر الإصلاحي لوثر مثلا، النهب والذبح، وعدّهما فعلا إلهيا هدفه محاربة الأشرار، معتبرا أنّ كل مقاومة للملك السيد، جريمة قدح في الذات الإلهيّة؛ لأن السيد يحمل صولجان الله.
 
ترسّخ مفهوم الفرد الذي تحول إلى إطار يحمي الإنسان من تدخل الدولة والكنيسة في الآن نفسه شيئا فشيئا، وعمل الإصلاحيون على تجاوز وساطة الكنيسة بين المؤمنين والله على مستوى فهم الدين وأدواره، وحرصوا على اعتماد الكتاب المقدس مباشرة، ووجدوه كافيا ليدلّ المؤمن على الله. كما جدّدوا مفهوم الخلاص فجعلوه عملا فرديا ومجانيا، ينعم الله به على المؤمن لا يحتاج وسيطا بين الإنسان وربه. ورغم ذلك، يذهب الباحث إلى أنّ الكنائس الإصلاحية كانت تدّعي الرغبة في الإصلاح. أمّا على مستوى الواقع، فلم تكن تفعل الكثير لتغيير الأنظمة القائمة كإزالة النظام الإقطاعي أو الحد من هيمنة الأمراء، فتعاظم نفوذ الملوك وغدا يمثل تهديدا صريحا لسلطة البابا والإمبراطور الروماني "الربّانية".

ويعد الباحث عامر عبد زيد كاظم الوائلي ظهور الأصولية المسيحيّة الإنجيلية من نتائج هذا الإصلاح على المستوى البعيد، فقد انتعشت في البيئات البروتستانتيّة، وبلغت ذروتها في القرن التاسع عشر الميلادي مع بداية التوسع الاستعماري والإمبريالي، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة لاحقا، وأصبحت مناصرة للحركة الصهيونيّة العالميّة حريصة على مباركتها، ساعية إلى تحقيق أهدافها. ورغم تباينها معها في التصورات، فإنها تقاسمها فكرة ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين باعتباره شرطا لعودة المسيح من أجل تأسيس مملكة الله. 


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم