قضايا وآراء

أديب إسحاق.. وذاك النسيان اللئيم!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
نتذكره في أشد أوقات الغياب حضورا.. ليس غيابه بشخصه، فمن لا يغيب؟ لكنه الغياب الذي تعكسه ذكرى الرجل، غياب ما عاش ومات له ومنه ولأجله، وما كان يصوره ويجسده في حياته القصيرة والتي بلغت 29 عاما! (1856-1885م).. ".. واعجباه! إنا أمة عظيمة ولا قوة لنا، وأرضنا خصبة ولا نجد القوت، نشتغل ولا نجني ثمرة الاجتهاد، ونؤدي الضرائب الباهظة فلا تعد كافية.. ونحن في سِلم خارجي وحرب داخلية، فمن هو ذلك العدو الخفي الذي يسلب أموالنا ويفسد أحوالنا؟". وإن تعجب، فعجب على عجب أن يكون هذا الكلام السابق الذي أطلقه أديب إسحق متسائلا من أكثر من قرنين، لا زال إلى الآن يُطرح كأنه طازج ساخن، وكأن الواقع صنعه وأحدثه للتو واللحظة الآن وحالا، لكنه من فرط الحسرات الأليمات مطروح من سنين السنوات.. ولا زلنا إلى الآن نسائله ونسائل أنفسنا: من هو ذلك العدو الخفي؟

".. سأكشف حقائق الأمور.. وأوضح معايب اللصوص الذين نسميهم اصطلاحا أولي الأمر، ومثالب الخونة الذين ندعوهم وهماَ أمناء الأمة.. وقصدي أن أثير بقية الحمية وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، ليعلم قومي أن لهم حقا مسلوبا فيلتمسوه، ومالا منهوبا فيطلبوه وليستصغروا الأنفس والنفائس من أجل حقوقهم".. كيف لقائل هذا القول أن تغيب ذكراه بل ويكاد ينسى في سرابيل الأيام نسيانا أقل ما يوصف به أنه "نسيان لئيم"، في وقت اتسعت فيه كل الدوائر المعرفية والإعلامية وبلغت فيه وسائل الوصول والحصول والتأثير والتذكير إلى ما بعد الخيال..
هذا الكلام السابق الذي أطلقه أديب إسحق متسائلا من أكثر من قرنين، لا زال إلى الآن يُطرح كأنه طازج ساخن، وكأن الواقع صنعه وأحدثه للتو واللحظة الآن وحالا، لكنه من فرط الحسرات الأليمات مطروح من سنين السنوات.. ولا زلنا إلى الآن نسائله ونسائل أنفسنا: من هو ذلك العدو الخفي؟

ولا نتذكر أحدا أعظم من جسدت حياته وأفكاره ونصه وفصه وأصله.. درة وجودنا وعماد ظهورنا، وأعني "الأمة".. هذا المعنى الذي عاش ومات برنارد لويس - مثلا - في سبيل اقتلاعه من الوعي والعقل العربي والعالمي على السواء، ويكاد يكون أفنى حياته كلها في سبيل تصوير هذه الأمه على أنها محض "وهم" أنتجته ليالي ألف ليلة وليلة وخيالات الأصفهاني في الأغاني.. لكن أديب إسحاق ذاته وحياته تقول لنا إنها "عين الحقيقة".. إنه أرمني الأصل سوري المولد، لبناني النشأة، مصري المسيرة والنشاط، عروبي الفكر والعطاء.

وُلد في 21 كانون الثاني/ يناير 1856 وتلقى تعليمه الأولى في دمشق كما تقدم.. ثم انتقل إلى بيروت وأكمل فيها دراسته في معهد الآباء اليسوعيين.. ثم اشتغل بوظيفة كاتب في ديون الحكومة وانتقل إلى عاصمة العروبة والإصلاح وقتها (القاهرة) ليمر على أهم محطة فكرية مر عليها وجلس بها من طال به المقام ومن قصر، محطة جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق ونبراس الإصلاح الذي أشرق وأضاء طويلا ولا يزال في سماء الأمة.. فنزل أولا بالإسكندرية حيث اشتغل في الترجمة والتأليف للمسرح مع سليم النقاش، ثم ذهب إلى القاهرة، وهناك تعرف على استاذه وملهمة والذي وتعرف عنده على البارودي وسعد زغلول ومحمد عبده... الخ، فانضم إلى صحبته.

ساعده جمال الدين على إصدار جريدة "مصر" الأسبوعية في عام 1877م في القاهرة أولاً ثم في الإسكندرية ثم أصدر جريدة "التجارة" وكان الأفغاني يكتب فيهما إكراما له.. وعندما ألغى مصطفى رياض باشا، رئيس الوزراء وقتها، تصريح الصحيفتين هاجر إلى باريس عام 1880م وأنشأ فيها جريدة "مصر/ القاهرة"، وهناك تعرف على مفكرين ورجالات دولة أتراك.. وتعرف على صاحب "البؤساء" فيكتور هوجو الذي قال عنه "إن هذا الشاب من نوابغ الشرق".
كان أديب إسحق يؤمن إيمانا كبيرا بحرية الفكر وضرورة إعمال العقل.. وكان يدعو إلى الحياة الدستورية الكاملة ويطالب بالحريات الديمقراطية القائمة على الشورى، ويدعو إلى التقدم والإصلاح بعيداً عن العنف، وقد تأثر في ذلك كله بأستاذه وملهم أفكاره جمال الدين الأفعاني

في عام 1881م عاد إلى بيروت واشترك في تحرير جريدة "التقدم".. وحين تغيرت الوزارة في مصر عاد إليها. وكانت له صلة قوية بمحمد شريف باشا، رئيس الوزراء و"أبو الدستور" كما يقال، فعينه مديرا لقلم "الإنشاء والترجمة بديوان المعارف" وكاتب سر مجلس شورى القوانين.. ورخصت له الحكومة في استئناف إصدار جريدة "مصر"، لكنه اضطر إلى العودة إلى بيروت بعد الثورة العرابية (لم يكن صديقه شريف باشا على وفاق مع معظم قادتها).. وعندما احتل الإنجليز مصر 1882م حاول الرجوع إليها ولم يسمح له، فأقام في بيروت وعمل رئيسا لتحرير جريدة "التقدم"، ورحل عن دنيانا في ريعان شبابه عام 1885م ودفن بقريه الحدث في بعبدا.

كان أديب إسحاق يؤمن إيمانا كبيرا بحرية الفكر وضرورة إعمال العقل.. وكان يدعو إلى الحياة الدستورية الكاملة ويطالب بالحريات الديمقراطية القائمة على الشورى، ويدعو إلى التقدم والإصلاح بعيداً عن العنف، وقد تأثر في ذلك كله بأستاذه وملهم أفكاره جمال الدين الأفعاني.

في أول مقال ينشره بجريدة مصر وهو مقال "أوروبا والشرق" يقول: قُضي على الشرق أن يكون هدفا لسهام المطامع والمطالب، تعبث به أيدي الأجانب من كل جانب، فمنهم من يغير عليه بحجة الغيرة على الإنسانية، ومنهم من يتطرق اليه بدعوى إقامة المدنية، ولم نر منهم من صدق في دعواه، بل كلهم تابع في ذلك قصده وهواه ويستطرد قائلا: أفليس الموت خيرا من هذا الفوت؟ أيليق بذي الدم الشرقي أن يصير على هذا المسف؟ أم يحسن بذي النفس الذكية أن يرضى بهذا الخسف؟ أم لا يعلم قومنا ما قاله المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم؟..
كان تفكيره السياسي يقوم على ركيزتين، الأولى: المحافظة على السلطة العثمانية، وهو مما يذكر له كمفكر مسيحي كاثوليكي، والثانية: الإصلاح الداخلي المتدرج المتوافق مع الزمان والمكان والناس.

وككل العروبيين الإصلاحيين الكبار، دعا إلى اتحاد عربي بعيد عن التعصب المذهبي فيقول في ذلك: "ما ضر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى ما كان يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصوات متفقة المقاصد كأنها من فم واحد: قد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، فذرت حقوقنا فصارت هباء منثورا، ولمت بنا القارعة ووقعت الواقعة فصرنا كأن لم نغن بالأمس، ولم نكن شيئا مذكورا..".. وواضح طبعا أثر البيان القرآني في لغته ومدى تأثره به.
هكذا عرف الوطن في وقت علت فيه الأصوات المتعصبة بفكرة "مصر للمصريين".. فالوطن في فكره: هو محل الإقامة الدائم للإنسان، الذي ينشأ فيه ويتجنس بجنسيته، فتتولد رابطة وجدانية عميقة تربط المواطن به

نحن في الوطن إخوان يجمعنا المكان واللسان، وكلنا وان تعدد الأفراد "إنسان". هكذا عرف الوطن في وقت علت فيه الأصوات المتعصبة بفكرة "مصر للمصريين".. فالوطن في فكره: هو محل الإقامة الدائم للإنسان، الذي ينشأ فيه ويتجنس بجنسيته، فتتولد رابطة وجدانية عميقة تربط المواطن به.

نستطيع إجمالا هنا أن نحيط بجوانب الشخصية الفكرية والإصلاحية والسياسية لأديب إسحاق؛ ليس كشخص وفرد، ولا كرائد من رواد النهضة، ولا ككاتب وصاحب قلم.. ولكن كتيار كبير انتظم الأمة كلها في نسق وتكامل وقوة، والذي كان على رأسه بالطبع جمال الدين، وهو التيار الذي كان تؤمل من ورائه آمال كبار.. سنجد في مفردات كتاباته وأقواله نفس المفردات التي تلألأت في سماء هذا الزمن الذي وصفه ذات مرة قائلا: "نحن في زمان لا يشبه الأزمنة، وحال لا تماثل الأحوال".. سنقرأ عن الحرية والعدالة والمساواة والوطن وحرية الفكر والأمة والوطنية والدّستور والحقوق.

كان رحمه الله رائدا كبيرا من رواد الإصلاح العروبي والإسلامي، وعلى الرغم من قصرِ عمره.. فقد نجح في نحت علامات بارزه على صخره الواقع الصعب الذي عاشه.. وما أحلى الذكرى وما أحوجها.

twitter.com/helhamamy
التعليقات (0)